تقرير مغيرة حربية الخرطوم 7 – 7 – 2021 (سونا ) - وسط أجواء من الحزن الطاغي، شيَّع كتاب ومثقفون ومسؤولون، بالإضافة لأهله وأصدقائه وتلامذته في الأدب والصحافة، الراحل الكبير الروائي عيسى الحلو (1944-2021)، بعد حياة زاخرة بالعطاء الإبداعي والروائي والنقدي، امتدت لنصف قرن كامل من السرد والكتابة دون انقطاع، ووري الحلو ثرى مقبرة أحمد شرفي بأمدرمان، بعد أن غيبه الموت في أحد مشافيها صباح (الاثنين) 5-7-2021. وُلد عيسى الحلو بمدينة كوستي، بين النهر والرمل، العام 1944، ونال دبلوم التربية ببخت الرضا 1971، عمل منذ فترة مبكرة من حياته بالصحافة الثقافية، وظل منشغلًا بها، وحاز شهرة واسعة في الأوساط الثقافية والصحفية بالإشراف على الأقسام الثقافية في الصحف اليومية، دون أن ينقطع عن ممارسة الكتابة الإبداعية والنقدية، متجولًا بين صحف الأيام السودانية في العام 1976، السياسة والصحافة، ثم رئيسًا لتحرير مجلة الخرطوم التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة والفنون بالسودان، قبل أن يستقر لزمن طويل في رئاسة القسم الثقافي لصحيفة الرأي العام. قدَّم الحلو من خلال تجربته في العمل الصحفي عشرات المبدعين، أصبحوا من مركوزات الفعل الأدبي والكتابي في المشهد الثقافي السوداني، وأرسى تقليدًا صحفيًا متينًا في متابعة واختيار وتقديم الأصوات الجديدة، نقدًا وتقويمًا ونصحًا، مولعًا بالكتابات الجديدة، محتفيًا ومبشرًا بالأسماء القادمة، وتشكلت على يديه، من دون مبالغة، خارطة المشهد الإبداعي السوداني للخمسين عام الأخيرة. يقول القاص جمال غلَّاب: "من السوانح التى أظل حامدًا شاكرًا لتوفرها في مسيرتي الكتابية المترنحة، تعرُّفي، ثم صداقتي بالأستاذ عيسى الحلو، وأنا بعد صبي يافع يتداخل في مخياله (كُوع) الكتابة الأدبية ب(بوعها). وينوه غلَّاب أن غالب الشباب والصبية، ممن كانوا يحاولون النشر في منتصف ثمانينات القرن العشرين، لا بد جمعتهم الظروف بالملهم الفنان عيسى ولا بد حلوا في قائمة اصدقائه، ويعدد منهم، الصادق الرضي، حافظ محمد خير، بابكر الوسيلة، حسن عثمان الحسن، عثمان شنقر، ومن أجيال تالية، الطيب عبد السلام، مامون التلب، محفوظ بشرى، نجلاء عثمان التوم، محمد الصادق الحاج، حاتم الكناني، "وغيرهم كثر". أصدر عيسى الحلو الذي يُعد أحد رموز السرد في السودان، العديد من الروايات والمجموعات، كان آخرها "شدو الصمت الصدّاح"، ومجموعته القصصية "ريش الببغاء، الوهم، وردة حمراء من أجل مريم، قيامة الجسد، عجوز فوق الأرجوحة"، إلى جانب إصداره روايات "حمّى الفوضى والتماسك، صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل"، وله ثلاث روايات نشرت بالصحف السودانية، مداخل العصافير إلى الحدائق، الجنة بأعلى التل، البرتقالة". وتُعدُّ مجموعته القصصية "ريش الببغاء" هي باكورة أعماله في العام 1963، واعتبرها النقاد، حينذاك، تجربة مغايرة في المشهد السردي السائد. يفهم الحلو أن الموت نقيض الحرية، يقول للكاتب محفوظ بشرى، "استمرار التفكير فيه يقتل حيوية الحياة ويجعلك كمن يحيا في الموت. أنا لم أسأم العيش لأفكر كثيرًا بالموت. الحياة قبل الانخراط في اللحظة المعاشة تحتمل أكثر من طريقة للعيش، لكنك حين تنخرط في هذه اللحظة داخل قالب سلوكي محدد، ثم تنتهي اللحظة، فأنت تشعر بأنك لم تتحقق كذات في هذه الحياة بكل طاقة الإرادة المبدعة، لذا نكرر ما عشناه في الماضي لأننا لم نستطع إنجازه بالكامل". كان مثقفًا واسع الاطلاع، بصيرًا بمناهج وأفكار الكتابة الروائية بمدارسها المتعددة وبأهداف الكتابة نفسها، يقول: "أفضل ما فيّ أن الأفكار تجري في دمي. نعم، ليست الأفكار في جهة وجسدي في جهة أخرى [...] الأهداف النبيلة للكاتب، مثل تغيير العالم أو تغيير نفسه، لا تفضي إلى غاياتها. أظن هيمنغواي انتحر لأنه وصل إلى هذه النتيجة. ذلك يشبه ما قاله ماركيز حين مُنح نوبل: "لقد انطلت عليهم الخدعة".
يقول الناقد عامر حسين: "يسمح المفكر السارد "عيسى الحلو" لكائناته السردية العيش تحت صراعها الاجتماعي بحرية تامة مع استقلالية مبهجة ومبتهجة، في ممارسة السياسة على طريقتها دون إظهار لخطاب مباشر فج". يتابع: "يغوص "الحلو" عميقاً في النفس البشرية ويتعمق أكثر في حراكها الداخلي النفسي المحيط بها والغربة المكانية والزمانية التي تعيشها ولعل أعلى وصف ممكن وضعه لقراءة كتابات الأستاذ "عيسى الحلو" هي ليست شاعرية اللغة ولا حتى بساطة السرد وانسيابيته التي تظلل كتاباته، وانما عمق الفكرة وأصالة القراءة للواقع، وعدم "الاستلاف" لغة أو سرداً أو منهجاً في الكتابة". نشأ عيسى الحلو في أزمنة المذهب الوجودي الذي لفت انتباه كثير من الأجيال الصاعدة في ستينات وسبعينات القرن المنصرم، تأثروا بفلسفته ومقولاته ووجدوا في تنظيراته حلًا لمشكلة الإنسان، لكن سرعان ما حاول الحلو اكتشاف طريقة خاصة للتعبير عن أفكاره في الوجود والكتابة، السردية والنقدية، وفي الحياة، وأنشغل بالكتابة عن المدينة وتعقيدات مصائر إنسانها، فقدم أبطالًا يتحركون بين فضاء اليومي الواقعي، وبين انكسارات الذاتي في الأمل والوجود والخذلان. يقول الشاعر محجوب كبلو: " نعم يودع السودان أحد قباطنة حداثته، ونودع أجمل الأساتذة، المنحاز دومًا للمستقبل كأنما قد جاءنا منه، يضيف: "تحس أن الجمال هو مبرره الوحيد للإنوجاد، وقد أعدى بعبء هذا الجمال جيلًا كاملًا ممن أعدى بهذا الشقاء النبيل". وينعي كبلو الحلو: "كان بنظرةِ قبطانٍ مَغسولةٍ بالتحْديقِ في المِياهِ العالية، وغليونٍ مُتَخَيَّلٍ -فَهوَ لا يُدخِنُ الآن- كأنَّمَا وَجهه كان قِناعًا لابتسامةٍ أبدَية".