من خلال هذه الصورة التي نستعرضها، حول أثر التديُّن الصوفي في الحياة السودانية، تتأكد لنا حقيقة مهمة، هي أن )الشريعة (في بلاد السودان، لم تكن نصوصاً معلومة، أو مواداً قانونية مدوّنة، بل لم تكن مظانها النص الأساس، أي القرآن والنصوص المتفرعة عنه، مثل كتب الفقه، والسيرة المذاهب لم تكن تلك المراجِع، في متناول العامة والكثير من الخاصة، نظراً لِبُعد الشقة بين سنار والحواضر العربية، فضلاً عن أن تداول الحرف، كان شحيحاً في ظرف السلطنة التاريخي.. كانت الأحكام التي تصدر بمسمى الشريعة، تأتي على سبيل التبرك من معين التديُّن، وكمُحايلة من النخبة لمعالجة الوقائع تحت دثار المُقدَّس.. وقد كانت تلك المُحايلة، ضرورية في واقع إجتماعي، كان إقامة الحد فيه، يُفسَّر عند العامة، كأنّه كخروج عن الراسخ في أذهانهم، بأن ذاك الهجين الثقافي، هو الدِّين.. إن حال العامة في اعتقادهم هذا، لا يختلف كثيراً عن حال النخبة الراهنة، التي تدعي أن الشريعة قد وجدت حظها من التطبيق في ظروف السودان، وهو إدعاء واهم ضخَّمه تواجد نخبة المتدينين تحت ظل الحاكم، حتى تأصلت في داخلهم حساسية مفرطة، تتقصد تخيُّر ما يريده الحاكم، بتقمُّص إشاراته، واستكناه رغباته، لدرجة تطويع النص والأعراف، لتساير رضاه ومصالحه، مع توشيح وزخرفة تلك المسايرة، بهالة القداسة، عوضاً عن تنفيذ العقوبة الحديّة، أو الإعلام الصريح عن حرفية النص، ثواباً كان أم عقاباً.. كان الحاكم، ولم يزل، يسخِّر هذه النخبة في إدارة شؤون الحكم والإدارة والقضاء والدعاية له ولنظامه.. في مقابل ذلك التسخير، يقوم السلطان بإغداق العطايا عليهم، وتتحدد مواقع أفراد النخبة، من السلطان، بمستوى الأداء الذى يرضيه.. ولم ينجو من ذلك التسخير، حتى القاضي دشين، الذي وصفه ود تكتوك بأنه (قاضي العدالة الما يميل بالضلالة) ..أنظر الطبقات، ص213.. فالقاضي دشين، إرتبط أداؤه لوظيفته، بوقائع وأحداث تتشابك خيوطها، بين الديني والسياسي، وكان يتعامل مع الأحداث من ذاك المعين الثقافي المختلط، العرقي والعقدي، وفي كل ذلك، لا تغيب ذاته عن الاصطباغ بالحدث.. كان دشين صوفياً في التزامه بالمذهب الشافعي.. كانت أحكامه القضائية تصدر من منطلق ثقافته الفقهية، ومن ولائه وفهمه لمفاهيم التطرُّق المُشاعة داخل مجتمع تسود فيه تعاليم الفقه المالكي.. تفرّد القاضي دشين كقاضٍ توفيقي، بين تفرعات الفكرة الدينية عموماً، حيث أن وضعية التمازج العرقي والعقدي، لا تشكل المناخ الملائم لجعل المجتمع أو الدولة، ميداناً رحباً للعدل ..بإشارة واحدة، يمكن قراءة مواقف القاضي دشين، من خلال ما دوّنه ود ضيف الله، بشأن خلاف النخبة حينها، حول تعاطي التمباك، ومن خلال موقفه من شريعة الأحوال الشخصية.. ففي هاتين القضيتين، يتبدى بوضوح، أن قاضي العدالة، ما كان ينبغي له، أن ينفصل عن واقعه الاجتماعي والتاريخي، فقد كان لك قدر لا فكاك منه، مثلما أن إفرازات ذلك القدر لا يمكن نزعها من السياق، أو قراءتها، من زاوية المتناظرين لاحقاً ..إلى ذلك، كان قضاء السلطنة، قد شهد العديد من التجاوزات، رصد ود ضيف الله طرفاً منها.. من ذلك، قوله، أن من بين قضاة دولة الفونج، من تورط في الرشوة، وقد ذكر بالتحديد، أن: (الشيخ عبد القادر رشا القاضي بمهرة من أجل إمرأة.. وأن الشيخ قناوي ارتشى في أحكامه ففضحه أباه في السوق(..أنظر: الطبقات، ص101،( 150.. كما أن بين المشايخ، من مارس (المحاماة)، في معنى تلقين الحجة لأحد الخصماء لتفادي العقوبة، حيث أوصى الشيخ عبدالحليم بن سلطان رجلاً باصطناع العراك مع شهود خصمه حتى يطعن في شهادتهم أمام القاضي بحجة عدم الحياد والنزاهة.. أنظر: الطبقات، ص298.. مجمل القول هو، أن (تطبيق الشريعة) في عهد الفونج، وفي عهد المهدية، كان إدِّعاءاً عريضاً، تبنته جماعة الأُخوان المسلمين، في عصرنا الحاضر، من أجل تمرير مشروعهم السلطوي..