عندما ذكر الأستاذ علي محمود وزير المالية قبل حلول الأزمة الاقتصادية بالبلاد وهو يستقرئ المستقبل في مواجهة العاصفة الاقتصادية العالمية التي تفتك باقتصاديات دول العالم «أوروبا وأمريكا».. عندما ذكر بأننا هنا لابد أن نستعد ونهيء أنفسنا لمواجهة العاصفة.. وذكر في أتون رؤيته بضرورة تغيير ثقافتنا الاستهلاكية بشد الأحزمة المربوطة كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يشتد به الجوع أن يربط حجرًا في بطنه ويشده كلما اشتد به أمر الجوع بفضل الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً عليه وصحبه من قبل قريش.. فذكر علي محمود سيرة العودة إلى عواسة الكسرة باعتبارها ثقافة أساسية لأهل السودان.. أقامت عليه بعض الأقلام الصحفية وغير الصحفية الدنيا ولم تقعدها حتى اضطر الرجل إزاء سوء الفهم وإساءة استخدام العبارة أن يصمت. وصباح الجمعة استمعتُ إلى مداخلة جميلة من المهندسة وداد يعقوب إبراهيم عضو مجلس الولايات عبر برنامج «السودان اليوم» في الإذاعة السودانية حول الأزمة الاقتصادية ورفع الدعم من عدمه والجدل الدائر بين النخب، فقالت وداد إن معالجة المشكلة تكمن في تعزيز الزراعة وتثبيت ثقافتنا الغذائية القائمة على الذرة والدخن.. والقمح السوداني.. وبدلاً من رفع الأسعار والاستمرار في استيراد القمح الأمريكي والاسترالي فيجب علينا كدولة أن ندعم زراعة الذرة والدخن والقمح السوداني وذلك بتوجيه هذا الدعم المقدَّم للمزارع الأمريكي والأسترالي إلى المزارع السوداني بوضع أسعار تشجيعية للمنتجات السودانية وتشجيع المزارعين بشراء منتجاتهم بأسعار مجزية.. وهذا هو المخرج الوحيد في تقديري الشخصي للمخرج من أزمة الغذاء وتثبيت الأسعار المتصاعدة. قبل عدة سنوات قرأتُ كتاباً لأحد الأمريكان يتناول فيه كيف أنهم تمكنوا من تغيير العادات الاستهلاكية في نيجيريا عقب اكتشاف البترول وحولوها من دولة منتجة لغذائها المحلي ومستهلكة لما ينتج من منتجات زراعية إلى شعب خامل ترك الزراعة وأقبل على استهلاك القمح الأمريكي والخبز الفاخر والبيرقر وغيره ومن يومها صار الغذاء الأول لنيجيريا هو القمح الأمريكي وصار المستورد الأول للبترول النيجيري هي أمريكا..إذن تغييرنا للنمط الغذائي السوداني لم يأتِ برمية من غير رامٍ.. ولم نترك اللقمة والبليلة وعواسة الكسرة إلا في إطار مخطط مدروس تم تسريبه إلى عقولنا وبطوننا إلى غير الاستخدامات المختلفة للقمح الأمريكي والنظام أو الثقافة الغذائية الأمريكية لكي ندعم بشرائنا للقمح الأمريكي المزارع في أمريكا وأستراليا.. فبينما مُزارعنا ورغم معاناته في إنجاح المواسم الزراعية لا يجد الدعم لا من الحكومة ولا من المصارف ولا من التجّار، إنه لا يجد الحماية اللازمة كتوفير الطاقة والمدخلات والأسعار المجزية في نهاية المطاف.. فالمواسم هي مواسم للتجار.. ويكون المزارع فاعل خير كما قال أهلنا في الشمالية.. فالطاقة الكهربائية متوفرة للاستهلاك المنزلي.. وهناك تعثر ومماطلة وابتزاز في توصيل الكهرباء المنتجة من سد مروي لقطاعات زراعية كبيرة من الولاية المنتجة للقمح.. والقرار في هذا عند المركز.. والمزارعون تركوا الزراعة وجلسوا تحت المراوح والمكيفات لأن الزراعة صارت غير مجزية في ظل هذا الإهمال الكبير.. إذن المخرج من الأزمة في مواجهة الحصار الاقتصادي يمكن بدعم المزارع السوداني خاصة في هذا الموسم المبشِّر بالأمطار.. ففي الموسم الماضي كان إنتاج الذرة أكبر من حاجة البلاد بأضعاف الأضعاف حتى أن الحكومة عجزت عن إيجاد المواعين التي تحفظ وتخزن فيها المنتجات من الذرة.. الآن الفرصة متاحة لدعم زراعة الذرة والدخن كزراعة مطرية مجدية فقط الدعم وطمأنة المزارع بأسعار مجزية ومدعومة من الدولة.. ومطلوب من منظمات المجتمع الدعوة للعودة إلى«العواسة» فهي جزء مهم من ثقافتنا الغذائية الراسخة ولا ينبغي أن ننجرَّ إلى ثقافة الغرب ولتدعُ تلك المنظمات علماءنا وعالماتنا إلى التوجه نحو تصنيع مصانع الكسرة والخبز المصنوع من منتجاتنا فهي كثيرة وتكفينا فدعونا «نعوس» جميعاً ونحفظ ثقافتنا الغذائية ونحفظ كرامتنا ونحقق أمننا الغذائي.. فالأمر بيدنا أن نكون عبيداً للسيد الأمريكي الذي يظن أنه سيد العالم.. وبين أن نكون أحرارًا نستقل بقرارنا وأن نستخدم النيل هبة الله عزَّ وجلَّ.. ومخزوننا الأرضي من المياه وكذلك السماء التي تهطل علينا مدرارًا.. فجميعها تصبُّ في صالح تحررنا وتمسكنا بثقافتنا الغذائية.. و«قمحنا إن دعمناه كتير بكفينا»..