من باب حُسن الظن، أو من نافذة النيّات الحسُنة، أجدني ميّالاً - في بعض المرات – إلى تبرئة ساحة نواب البرلمان من بعض تصرفاتهم الخرقاء. وأحياناً – كثيرة - لا أخفي تعاطفي مع بعض المداخلات الشتراء، انطلاقاً من أن المعايير التي جاءت بأكثرية النواب إلى قبة البرلمان، ليست مستقيمة ولا عادلة، وأنها نتاج اعوجاج كبير في الممارسة السياسية، ونتاج لوضع طارئ تعيشه البلاد منذ أزمنة سحيقة. لدرجة أن بعض الذين يستكثر عليهم المنطق، المرور قبالة المجلس الوطني، نابوا عن الشعب تحت قبة البرلمان، في أزمنة الطوارئ السياسية..! ولكل هذه النقائص الفطرية التي تزيِّن ديباجة بعض النواب، أجدني ميالاً لالتماس الأعذار لهم، خاصة أن بينهم من تعوزه المعرفة الكافية. فكيف ترجو منهم أن يتداخلوا بصورة ذكية، أو أن ينظروا بزاوية متفردة..؟! وبناء على ذلك كلِّه، ظل كثيرون يتصالحون مع الترهات القادمة من البرلمان. لكن بعد أن أضحت مداخلات النواب تحفل ب "شطحات" مثيرة للشفقة والسخرية معاً، أصبح من غير المنطقي غض البصر والقلم عن الهرج البرلماني، ولا سيّما بعد أن أضحت الخزعبلات البرلمانية فوق حدود المعقول وفوق المحتمل..! انظر إلى نواب البرلمان تجد أنهم تسابقوا، لوضع مقترحات - رأوا أنها ملائمة - لإنهاء الضائقة المعيشية الطاحنة، التي تُمسك بخناق البلاد والعباد. وهذا أمرٌ جيدٌ ابتداءً، ولكن من يتفحّص تلك المقترحات والحلول سينزع عنه حالة التعاطف مع الأفكار البرلمانية، وسينقلب إلى النقيض تماماً، بحيث يتحول إلى ناقد لتلك الأفكار، وإن تهندمت بلبوس التعاطف مع الشعب..! فليس من المنطقي أن يعكف قادة البرلمان لتشخيص الحالة الاقتصادية المأزومة، تمهيداً لكتابة ورقة للحل. ثم من بعد ذلك كله يتفاجأ الناس بأن مقترحات النواب لحل الأزمة الاقتصادية تأتي على شاكلة النقاش التبسيطي الذي يدور في الملجة وسوق العيش..! نعم فقد تبارى النواب، أمس، لإظهار مقدراتهم في طرح الأفكار البهلوانية والرؤى التبسيطية، لمشكلة بالغة التعقيد متعلقة بمعاش الناس. وهنا يكفي الإشارة إلى أن بعض النواب حصروا الضائقة المعيشية في تغيير الثقافة الغذائية، وقالوا إنها بسبب التجاء الناس إلى أكل الخبز، وبناء على ذلك تفتقت عبقريتهم وطالبوا المواطنين بالعودة إلى "الكسرة والعصيدة"..! وكعادته في اجتراح الأفكار المثيرة، فقد طالب الدكتور الحاج آدم، بحرمان الموظفين من الدعم الاجتماعي، على اعتبار أن الموظفين "كاتلين الجدادة وخامِّين بيضها"، وقال: "أي زول ما داير يقعد في الوظيفة يمشي سوق الله أكبر دا".. ولعل ذلك ما جعل إحدى الموظفات الحكوميات تنبري له بما يُغنينا عن الإسهاب..! أما بالنسبة لأزمة المواصلات فقد طالب النائب محمد أحمد الشائب بإلزام الدستوريين بترحيل المواطنين معهم في السيارات الحكومية، من باب فضل الظهر..! بينما انبرى نائب آخر، هو خليل الصادق، وطالب بفرض رسوم على الأجانب بالسودان..! وظني أن تلك المقترحات الفطيرة، هزمت الفكرة التي عكف عليها البرلمان طوال الفترة الماضية، والخاصة بكتابة وصفة لحل الأزمة الاقتصادية، بالاشتراك مع بعض المختصين. ولكن من يذهب إلى التاريخ القريب، سيجد أن ذات النواب الذين رفعوا عقيرتهم الناقدة للوضع الاقتصادي الحالي، هم أنفسهم الذين صفَّقوا لقرار رفع الدعم الذي أضرَّ بالبلاد والعباد والاقتصاد..! قناعتي، أن المصيبة ليست في أن تتناسل تلك الأفكار العجيبة من قبة البرلمان، وإنما المشكلة في أن تأخذ الحكومة بتلك الأفكار، وتقوم بتحويلها إلى برنامج عمل..! وإذا حدث هذا فليس هناك وصف أليق من أن يُقال "دراويش لاقو مداح"..! صحيفة (الصيحة)