الوقت الثمين الذي بددته الحكومة في البحث عن الحلول المؤقتة لفجوة الواردات وتوفير النقد الأجنبي على طريقة (رزق اليوم باليوم) ومساندات الأشقاء منذ خروج البترول من ميزانية الدولة بعد الانفصال وحتى الآن، كانت هذه الفترة كافية جداً لإدخال بدائل حقيقية للمورد الغائب وفق خطة مدروسة في بلد لم تكن ميزته التفضيلية ومورده الاقتصادي الحقيقي هو النفط. لكن سنوات النفط أوهمتنا بأننا يمكن أن نكون دولة نفطية ريعية وحولتنا بسرعة إلى بلد استهلاكي على مستوى حكومته ومواطنيه خاصة وأننا ظللنا أكثر تأثراً بنماذج دول الخليج من نظرتنا إلى تجارب دول أخرى حققت المستحيل ونهضت واكتفت ذاتياً وانتعشت في غضون سنوات لا تزيد عن السنوات التي ضيعناها في انتظار وديعة من هنا ومنحة من هناك وصفقة زراعية مجحفة مع هذا أو ذاك.. كانت ولا تزال بيدنا فرصة لجعل السنوات الخمس القادمة هي سنوات تنفيذ لخطط إنتاجية حقيقية تغير أحوال البلد وتبدل إحباطنا العام إلى أمل واسع. المحبطون ينتظرون قيامة هذا البلد ويعتبرون أن الشهور القادمة ستشهد خناقاً اقتصادياً قاتلاً حول عنق السودان، أما الحكومة فلا تزال غارقة في (حلول الأزمة) ومعالجات حالة الطوارئ الاقتصادية ورزق الطير في بحر العطايا المالح. من أعطانا اليوم لن يكون مستعداً أو حتى مضطراً لأن يعطينا غداً.. وأخشى أن نتحول من حلم سلة غذاء العالم إلى دولة عاطلة تعيش على العطايا والمكافآت.. والنخب الاقتصادية تمارس اليوم دوراً سلبياً، فهم إما يائسون ومحبطون مثل السيد عبد الرحيم حمدي الذي يكتفي بالتنبؤات القاتلة ويده في الماء البارد، أو مكلفون غارقون في التخبط أو أحلام اليقظة. كيف نتخيل بعد كل هذا الحديث المتكرر عن ميزات قانون الاستثمار السوداني وعن حجم الاستثمار الأجنبي والأراضي الزراعية التي منحتها الدولة للمستثمرين العرب أن يأتي وزير الاستثمار الجديد ويطلق تصريحات مفادها أننا كنا ننتظر السراب وأن قانون الاستثمار الحالي مختل ومعتل وأن ما تم بناؤه على هذا القانون ليس أكثر من قصور رملية وأبراج من تراب مثلها مثل بيوت الصبيان على شاطئ البحر التي يستغرق عملها ساعة ولا يكلف زوالها سوى مسحة من يد صبي ٍ قلق. يقول مبارك في إفادات نشرتها (اليوم التالي) قبل أيام في التعليق عن حجم الاستثمارات الأجنبية في السودان إنه لا يعرفها ويقول (يتحدثون عن المشاريع فقط لكن كم هي قيمتها وكم تنتج غير معروفة، إذا سألت كم المبلغ الذي تم تحويله إلى البنك المركزي أيضا غير معروف، فكلها انطباعات)..! هذه إفادات خطيرة جداً وتعطي مؤشرات أخطر حول بوصلة ضائعة تماماً في واقع الاستثمار في السودان بعد كل هذا الانتظار.. المشكلة أن من كانوا يصدقون أغنية الاستثمار وألحان الغزل في قانونه وفتوحاته الذهبية سابقاً لن يتوفر لديهم استعداد مرة أخرى لتصديق وعود مبارك الفاضل الجديدة أو أي مبارك آخر يأتي بعده. شوكة كرامة لا تنازل عن حلايب وشلاتين. اليوم التالي