في مشهد لم تألفه الأحزاب البريطانية من قبل، شهد هذا الأسبوع سابقة لم تتكرر من قبل، حيث تنافس على زعامة الحزب في المؤتمر العام لحزب العمال البريطاني العريق شقيقان هما ديفيد ميليباند وايد مليباند الى جانب ثلاثة مرشحين، الا أن الصراع انحصر ما بين الشقيق الاكبر ديفيد «45 سنة» والشقيق الاصغر ايد «40 سنة» ليفوز الأصغر بفارق ضئيل قدره 1% من جملة أصوات الكلية الانتخابية للحزب، فبينما حصد ديفيد اصوات الهيئات البرلمانية للحزب استطاع الشقيق الأصغر الفوز بواسطة قطاع النقابات داخل الحزب. هذا النموذج يوجب علينا أن نتوقف لنقارن الأداء الديمقراطي داخل أحزابنا في السودان والأحزاب البريطانية العريقة، وقد تبدو المقارنة من حيث المبدأ غير عادلة، فالديمقراطية في بريطانيا راسخة لعقود بل قرون، بينما السودان لم يحظ طوال أكثر من نصف قرن إلا بثلاث حقب متفرقة من الحكم الديمقراطي لا يتجاوز مجموع سنواتها العشر سنوات. ولكن رغماً عن هذا فإننا نأخذ على أحزاب السودان ازدراء المؤسسة الحزبية والخلود المطلق للزعامات في سدة الرئاسات الحزبية. لقد شهد السودان وحزب الأمة بالتحديد في الستينيات نموذجاً مقارباً لما حدث داخل حزب العمال في هذه الأيام، إذ نشب خلاف حاد بين الإمام الراحل السيد الهادي المهدي وابن أخيه السيد الصادق المهدي حول الزعامة وامتلاك ناصية الفعل السياسي داخل الحزب، إلا أن طرفي الخلاف عجزا عن احتواء الأمر داخل مؤسسات الحزب وحسمه عبر آلية الديمقراطية والمؤسسة، فكان أن انقسم الحزب إلى جناحين سياسيين مستقلين عن بعضهما البعض، مما ترك أثراً سلبياً فادحاً في الحقبة الديمقراطية الثانية باكملها. والدرس الآخر الذي نستشفه من هذه التجربة البريطانية، هو انفتاح رئاسة الحزب البريطاني العريق امام الاجيال الشابة، فالاخوان المتصارعان كلاهما دون الخمسين من العمر، ولم يحل صغر سنهما دون الترقي داخل مؤسسة الحزب واكتساب الخبرات المطلوبة سواء فى الحزب أو في الجهاز التنفيذي، فقد شغل الشقيق الأكبر منصب وزير الخارجية في حكومة العمال الأخيرة برئاسة قوردون براون، بينما حظي الشقيق الأصغر بمنصب وزير الطاقة، كما أن التوجهات اليسارية للزعيم الجديد للحزب ايد مليباند «إذ راحت بعض الصحف البريطانية تطلق عليه اسم ايد الأحمر» لم تقف عقبة في وجه صعوده الى قمة الهرم الحزبي.. فالحزب رغم تخلّقه في رحم الجماعة «الفابية» وهى جماعة اشتراكية ذات سمة ديمقراطية، إلا أنه غير منكفئ على ايديولوجية جامدة وثابتة توصد أبوابها امام رياح التغيير. وثمة أمر آخر، فالحزب العمالي البريطاني لا تحكمه معايير عرقية أو جهوية رغم تنامى شوكة الأحزاب القومية اليمينية فى أوربا بصفة عامة، فالشقيقان المتصارعان هما ابنان لأسرة مهاجرة من أصول بولندية جاءت الى بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، ووالدهما رالف ميليباند يعتبر من كبار المفكرين الماركسيين، وطلب أن يوارى جثمانه الى جوار كارل ماركس في مقبرة هاى قيت بلندن. وعندما وُلد هذا الزعيم الجديد لحزب العمال فى 1970م كان معظم قادة الأحزاب السودانية الحاليين يتربعون على عروشهم الحزبية التى ما تنازلوا عنها إلى يومنا هذا.. فقد عاصروا هارولد ويلسون وادوارد هيث وجيمس كالاهان ومارجريت تاتشر وجون ميجور وتونى بلير وقوردون براون وديفيد كاميرون..!! نسأل الله أن يعينهم ويعيننا.