ظلت مسيرة الاقتصاد السوداني محفوفة بكثير من المخاطر التي لطالما أحكمت قبضتها على مفاصل الاقتصاد السوداني بغية إضعافه منذ تسنم حكومة الإنقاذ سدة الحكم في العام 1989 غير أن سفيته سارت غير عابئة بما يعترضها من شلالات وجنادل للحد من حركتها فتارة بالحصار خارجيا وتارة بتشتيت الموارد داخليا بالصرف على الحروبات والنزاعات وثالثة جراء الأزمة المالية العالمية وأخيرا بانفصال الجنوب فكثير من المراقبين يرون أن الأخير يمثل أكبر هِزة للاقتصاد السوداني رغم تقليل القائمين على أمره من تأثيراتها. ولتلسيط الضوء وتبيان الرؤى عقب انفصال الجنوب جلست الصحافة إلى أحد عرابي النظام الاقتصادي في بواكيرتسعينيات القرن الماضي والذي عهد إليه الوقوف على رأس هرم إدارة بنك السودان المركزي محافظا الأستاذ الشيخ سيد أحمد حيث لم يطل مكوثه به فغادره إلى دنيا الأعمال الاقتصادية غير أنه ظل مراقبا عن كثب لما يجري في الساحة الاقتصادية بالسودان فخلص إلى أن غياب الرؤية الاستراتيجية المتكاملة هي أس البلاء وبيت الداء في هيكل الاقتصاد السوداني . { أعلن رئيس الجمهورية حل كل الشركات والمؤسسات التجارية الحكومية بنهاية العام الحالي علما بأنها كانت تستأثر بالعديد من الامتيازات فهل كانت برأيك مدخلا للفساد ؟ - ليس مدخلا للفساد فحسب بل وجودها في الأصل ضرب من الفساد ومجرد قرار إنشائها هو الفساد بعينه حتى لو لم تفسد وتساوت مع الآخرين بعد حصولها على امتيازات، لأن وجودها ضد سياسة التحرير المعلن عنها التي أولى أبجدياتها نقل الحركة الاقتصادية إلى القطاع الخاص وقد خصصت الحكومة وباعت كثيراً من المؤسسات التابعة لها مثل سوداتل والخطوط الجوية السودانية والنقل النهري والبحرية ومن بعد ذلك تنشيء شركة تعمل طعمية أو سكر أو تبني شارع زلط فهذا يوضح أن الحكومة لا تعرف ما تتحدث عنه أو تعرفه ولكن في غياب الرؤية الشاملة وفي غياب الشفافية والعدالة تريد أن تعمل تحت الشعار والسياسة التي طرحتها ما شاءت .أما الجانب الآخر الخاص بالاحتكار فسهل جدا لأن يمكن أن يأتي متنفذ وزير أو غيره وتحت حجة عدم ذهاب الربح المعين من أي مشروع يقول إنه يريد أن يعود إلى القطاع العام ولنفترض ذلك فهو إما أن يعطي الجهة الحكومية امتيازاً والامتياز الأكبر ليس بإعفائها من الضرائب لكن بأن يشوب ممارسة فرض الضريبة عليه يكون فيه الفساد مما يوقد لخلل البيئة التنافسية أو حتى على مستوى إعلام الجهة الحكومية بتوقيت عطاء معين يحتاج لوقت لترتيب الأوضاع والتجهيزات للدخول فيه فترتب نفسها قبل الآخرين فتظفر بالعطاء بكسبها لعامل الوقت والتجهيز المسبق قبل الآخرين، وفي ذلك ضرب من الفساد البين مما يقلل المنافسة بناء العدالة والكفاءة والشفافية حيث أن كثيراً من العطاءات والمزادات مفصلة على جهات معينة وتشريح كل حدث إذا أمسكت به تجد فيه كثيراً من الخروقات والممارسات الخاطئة الفاسدة ولعلم الجميع أنه لم يعد هناك احتكار 100% على مستوى العالم لكن يمكن ببعض الممارسات الخفية أن تتيحه لبعض الجهات بنسب متفاوتة قد تصل إلى 70% من خلال تقوية مواقفها وتقويتها على إقصاء المنافسين لها من خلال الاحتكار أو عدم الشفافية وللأسف عندنا ليس لدينا قانون لمحاربة الاحتكار وحتى لو وجد ليس هناك من يطبقه إذ أنه لم نسمع أن قيل للرأي العام أن هؤلاء محتكرون تم ضبطهم ومحاسبتهم أو معاقبتهم لو لمرة واحدة . وهناك أشياء أخطر من الاحتكار. { مثل ماذا ؟ - مثل زيادة الحكومة لأسعار الوقود مؤخرا بواقع جنيهين تقريبا للجالون غير أن حجم الزيادة في تعرفة المواصلات لم تكن بالحجم الموازي لزيادة أسعار المحروقات ولننظر إلى تكلفة الوقود في تكوين منظومة النقل ستجد أن العائد الذي يؤخذ تحت مظلة زيادة المواد البترولية كبير جدا من جيوب المواطنين إلى جيوب أخرى حكومية أو غير حكومية، لأن النتيجة واحدة وهذا يبرهن على غياب فهم التكاليف سواء من متخذ القرار أو مطبقه ومثال آخر منحة المئة جنيه التي قدمت للعاملين بالقطاع العام وبعض الخاص تجد أنها لا توازي حجم الزيادة الناتجة عنها في أسعار السلع الاستهلاكية ولا ننسى مقارنة عدد الذين يأخذون مرتبات من القطاع الحكومي والخاص ونسبتهم إلى بقية قطاعات الشعب ستجد أن نسبتهم ضئيلة مقارنة بحجم الزيادات التي نتجت عن منحة المئة جنيه. {هل معنى ذلك أن سياسة التحرير أهملت القطاعات الإنتاجية الحقيقية ورمت بظلال سالبة على المنظومة الاجتماعية ؟ - سياسة التحريرعنيت في المقام الأول رفع أهل الإنتاج غير أن ثمة خلط للمفاهيم قد زاع بين الناس عن ماهية سياسة التحرير ومقاصدها وخير شاهد على قولي لأول مرة السودان يتم إعلان سياسة سعر صرف في فبراير 1992 منذ إعلان الاستقلال حيث فشلت كل الحكومات في ذلك وسعر الصرف هو الأخطر لجهة تأثيره على كل شيء في الاقتصاد وربما كانت هناك سياسة ضمنية لسعر الصرف فحتى سنة 1992 كانت الحكومة هي الجهة الوحيدة التي لها الحق القانوني في تملك النقد الأجنبي وكان يعتبر تملك أو حيازة النقد الأجنبي خارج البنك المركزي جريمة لأجل هذا كان تحرير سعر الصرف في صالح المنتج زراعيا أو صناعيا لجهة أن الحكومة كانت تحدد السعر وتأخذ النقد الأجنبي عندها وكانت تحدد سعر الصرف بعد النظر إلى مواردها الحقيقية مضافا إليها الضرائب والجمارك وكم تساوي بالسوداني حسب تقديراتها وتقارنه بما يحتاجه تسيير الاقتصاد الكلي من النقد الأجنبي ( الدولارات)،ومن ثم تقدم على تحديد سعر الصرف بناء على قدرتها على شراء النقد الأجنبي فقد تكون قدرتها في أن تعلن أن يساوي الدولار 3 جنيهات أو اثنين أو خلاف ذلك فهي إذا تحكم على تحديد سعر الصرف بناء على قدرتها وكان معظم النقد الأجنبي يذهب لتغطية استيراد أو إنتاج سلع استهلاكية (السكر - الرغيف - البنزين ) تخص أهل المدن الذين لهم أثر في القرار والحراك السياسي لأنهم هم من يقودون المظاهرات والانقلابات والثورات ضد الحكومات رغم أن الحكومة لا تعطيهم مرتبات مجزية غير أنها تدعمهم عن طريق سعر الصرف الذي تتحصل عليه من الصادرات التي ينتجها في السودان القطاع الزراعي التقليدي، فكأن السياسات في سعر الصرف أن المنتج الذي ليس له صوت في الحراك السياسي يدعم ناس المدن ولما حررت أنا سعر الصرف كان الانحياز للمنتج الذي ينتج ما يجلب الدولار فعند ارتفاع سعر الصرف يرتفع دخل المنتج فعملت على رفع تلك الجزئية من تدخل القرار السياسي لينحاز تلقائيا لمن ينتج الدولار { لكن الحكومة رفعت يدها عن المنتج ؟ - لا لا الحكومة لم ترفع يدها عن المنتج لأن تحرير سعر الصرف كان أكبر من أي دعم في تأريخ السودان فالحكومة حتى سنة 1992 لم يكن لها أي دعم للمنتج إلا في الزراعة المروية التي لا يتعدى عدد مزارعيها بما فيها مشروع الجزيرة نصف مليون مزارع أما مزارعو القطاع غير المروي لا يجدون أي دعم ، الحكومة ظلت تدعم القطاع الصناعي الذي يملكه الأثرياء بالإعفاءات الجمركية والضرائبية رغم أن إنتاجه ليس به علاقة بالمنافسة داخليا أو خاجيا بل تكلفة إنتاجه أعلى من المستورد فمساهمة القطاع الصناعي في الناتج القومي الإجمالي لم تتجاوز 7% قبل إنتاج البترول في وقت وصلت مساهمة القطاع الزراعي 50% فظل المنتجون الحقيقيون يواجهون تدني سعر الصرف والجمارك والضرائب لأجل هذا غياب الرؤية هو المشكلة في الاقتصاد السوداني { هل تقصد أن الدعم لم يكن محفزا للإنتاج ؟ - الدعم كان محفزا لعدم الإنتاج ولعدم الجودة وعدم بناء القدرة التنافسية للاقتصاد السوداني نسبة للاحتكار وعدم تحرير سعر الصرف فبمجرد تحريره تم منح أكبر حافز للمنتجين أو على الأقل منحته شيئا يخفف عليه من دون تدخل إداري أو سياسي . { لكن ما زالت المشاريع الإنتاجية تترنح ؟ - يا أخي المشاريع الإنتاجية تترنح نسبة لسوء إدارتها في المقام الأول ومن ثم تأتي العوامل الأخرى ولنأخذ مثالا أقوى وأكبر المشاريع الزراعية مشروع الجزيرة فهو منذ انطلاقه في 1925 ورغم ما يقدم له من دعومات هل استطاع نقل مزارع واحد من مزارعيه من إلى دائرة الغنى بل إلى دائرة سترة الحال فهذا يدلل على أن نموذج مشروع الجزيرة نموذج خطأ فخطأوه قد يكون في اختيار التركيبة المحصولية به أوالحزم التقنية التي توصي بها الأبحاث الزراعية وفي رأي أن الحزم التقنية التي يوصى بها في مشروع الجزيرة غير اقتصادية وللاسف يدفع ثمن تكلفتها المزارع البسيط وقد يكون الخلل أيضا في إدارة العمليات الإنتاجية أو العمليات التسويقية أو السياسات العامة للدولة وإن اختلفت وتباينت درجات تأثيرها وخلاصة القول سياسة التحرير دون أطر سياسية عامة تطبيقها سيكون خصما عليها وعدم التحرير كذلك لأنه قبل التحرير لم يتحسن وضع مزارع مشروع الجزيرة وسائر المشروعات المروية الأخرى {هل بالإمكان تخطي معضلات المشاريع الزراعية عبر مشروع النهضة الزراعية ؟ - إذا لم يكن لديك رؤية أو فهم أو رسم خطة لمستقبلك عبر أية خطة أو مشروع وحددت ما تريد بوضوح فإنك لن تحقق شيئا وحتى إن سرت سيلازمك التخبط ،ففي غياب المرجعية لتحقيق الهدف لن تفعل شيئا ولو كتب لك الوصول ستكون أي كلام فالذي أريد أن أخلص له إن هذا الحال ينطبق على مشروع النهضة الزراعية ففي رأي أن الزراعة في شقها النباتي لم تعد ذات جدوى اقتصادية بالسودان نسبة لعدة عوامل على رأسها الزحف الصحراوي والذي على حسب تقارير الأممالمتحدة سيغطي جوبا بحلول 2030 بجانب التغييرات المناخية علاوة على العوامل الأخرى منها على سبيل قلة أو ضعف البحث العلمي غير أنه يمكن للنهضة الزراعية أو خلافها التركيز على الإنتاج الحيواني استغلالا واستفادة من الميزات النسبية التي يتمتع بها السودان على عكس ما هو متوفر للإنتاج النباتي . { ماهي ميزات الإنتاج الحيواني التفضيلية ؟ - يستهلكها أصحاب الدخول العالية وكذا الطبقة الوسطى التي تهتم بتجويد ثقافة الغذاء وأنها تلبي الحاجة المضطردة لاستهلاكها جراء الزيادة المتلاحقة لعدد سكان العالم لا سيما ان الطلب على الغذاء في زيادة متلاحقة يوما إثر آخر، ففي ظني يجب أن ينأى القائمون على أمر الاقتصاد بالسودان بأنفسهم من الاستماع إلى الاسطوانة المشروخة التي ظلت تشنف الآذان ردحا من الزمان أن السودان سلة غذاء العالم فهذا وهم كبير استمرأ السودانيون التكيف معه فنحن للأمانة لانحسن التعاطي مع الزراعة حيث أن المساحات الصالحة للزراعة تتقلص رقعتها يوميا جراء الزحف الصحراوي بجانب تناقص إنتاجية الفدان من 300 كيلوجرام في 1985 إلى 67 كيلوجرام من المحاصيل في القطاع غير المروي مما يعني حاجتنا لزيادة المساحة المزروعة بمقدار 17% هذا بجانب عدم قدرتنا على المحافظة على ما ننتج حيث نفقد ما يناهز ثلث إنتاجنا جراء عدم إجادتنا لمعاملات ما بعد الحصاد لأجل هذا كله أرى الأفضلية للإنتاج الحيواني لكونه أقرب للصناعة منه إلى الزراعة التي لم نعد لنا فيها القدرة على المنافسة في مضمارها فبقليل من الاجتهاد في مجال الإنتاج الحيواني يمكن التغلب على كثير من المعضلات الغذائية والأمنية إذ أنه بالإمكان التوصل لحل مشكلة أبيي بنقل مسار الرعي من الجنوب إلى الشمال عبر توفير المراعي في أراضي الولاية الشمالية البكر لتحقيق الإكتفاء الذاتي ومن ثم التصدير لدول الجوار مثل مصر وإرتريا وأثيوبيا وخلافها غير أن أخطر ما يعاني منه الاقتصاد السوداني تضارب السياسات والرؤى التي تجب كل منها ما قبلها . { ما رأيك في سياسة تعويم سعر صرف الجنيه التي اتبعها البنك المركزي مؤخرا ؟ - ضرورية جدا للمنتجين والتنافس داخليا وخارجيا فارتفاع سعر الصرف مهم جدا لصالح المنتج عموما وأي حركة اقتصادية لاسيما أن الدولة تتبنى سياسة تحرير اقتصادي والتي تعني فتح الباب للمنافسة دون تدخل من الدولة إلا في إطار ضبط حركة الاقتصاد وترك المجال لآلية حركة السوق لتحديد الأسعار، فسعر الصرف إذا كان إيجابيا فإنه يقلل تكلفة الإنتاج وبالتالي يعمل على حماية المنتجين والذي إن لم يستطع المنافسة لابد من إعادة النظر في عوامل الإنتاج غير أن ثمة سؤال يجب الإجابة عنه بصراحة هل المنتج السوداني مؤهل للمنافسة داخليا وخارجيا ؟ فسعر الصرف دوره الأساسي توجيه الموارد نحو الطلب لجهة أنه سعر تكلفة وأنه السعر المشترك المؤثر على كل الأسعار . { الكل يخشى قلة احتياطي النقد الأجنبي بالبنك المركزي عقب انفصال الجنوب فبرأيك ما المخرج من هذا المأزق ؟ - المخرج عندي تجنيب بعض الدخل والإيرادات خاصة وأن السودان يعاني هشاشة عظام اقتصاده وتتعدد عليه الكثير من الهزات التي على رأسها هزات تغير المناخ والأسواق مع ضرورة توجيه الاقتصاد لإنتاج العملات الحرة والعمل على ترتيب أولويات صرفه . { برأيك ما هي أسباب تدهور الصناعة بالسودان ؟ -إن معضلة الصناعة بالسودان الأولى افتقارها للرؤية والنظرة الاستراتيجية المتكاملة التي يحدد على ضوئها ما ينتج وبأية كيفية ولمن ننتج للاحتياج المحلي أم الخارجي وكيفية توفير رأس المال الدوار الذي يمكن المنتج من استمرار صناعته دون تأثر بعامل الزمن جراء تأخر دورة الاستيراد نسبة لبيروقراطية المعاملات والإجراءات هذا بجانب علو تكلفة الإنتاج جراء تذبذب سعر الصرف وقلة دعم المدخلات فنحن باختصار لدينا مصانع وليست صناعة جراء ضعف الفهم الفني والإداري الذي تقاصر عن إدراك العمل في بيئة تنافسية فعجز عن تغيير الإطار الاقتصادي .