كما تنبأت سابقا في دراسة اقتصادية مختصرة بعنوان «إلى أين تؤول ظاهرة سوق كسر الشيكات بالفاشر.. هل هي رحمات أم مواسير كما يصفونها هناك؟» بأن ما يعرف بسوق المواسير الذي نشأ في مدينة الفاشر ليس بوسعه أن يستمر إلى الأبد مثل الأسواق الأخرى، ولا توجد أية إشارة اقتصادية تشير الى انه سوق له المقدرة على البقاء مثل الأسواق الاخرى والوفاء بتسديد التضحيات المالية التي يتكبدها. وصدقت تلك النبوءة الاقتصادية، فما من نقطة ذكرت في تلك الدراسة الاقتصادية المتواضعة إلا ووجدت موضعها على ارض الواقع، فشاهدنا بأعيوننا كيف جسم الإفلاس بتلك الولاية، وكيف يترنح الدمار الاقتصادي بها، وكيف ينام مواطنوها والفقر على فراش واحد وتتربع الجرائم على شوارعها، فإذا نظرت إلى مواطني ولاية شمال دارفور الآن من قرب وبتجرد حسبتهم سكارى وماهم بسكارى، يبدو عليهم الإحباط والأسى والحيرة عن المصير بفعل الصدمة القاسية التي حلت بهم جراء تعاملهم مع ذاك السوق الفاني الذي كان يعرف سابقا ب «سوق المواسير»، نسأل الله أن يلهمهم الصبر والسلوان في ذلك، ويخلف لهم من خزائن الأرض والسماء.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل توقفت معاناة مواطن الولاية فقط عند الإفلاس والدمار الاقتصادي والفقر والجرائم بعد انهيار هذا السوق المصطنع artificial market ؟ الإجابة علي هذا السؤال- لا- لن تتوقف عند ذاك الحد، بل تعدته لتمس سلة الاستهلاك الأساسية لكل مواطن يقطن ولاية شمال دارفور، فتفاجأ الناس بارتفاع الأسعار inflation بعد زوال وهم سوق الشيكات ورجوع الأمور إلى نصابها الحقيقي، وجد الناس أن ألية الأسعار التي تنظم سوقهم اليوم تنحرف انحرافا كبيرا عن تلك التي كانت تنظمه من قبل وأثناء عمل سوق المواسير ولأهيمة هذا الأمر وجدت نفسي أمام فرض أخلاقي والتزام مهني لشرح الآثار الاقتصادية السالبة التي خلفها سوق المواسير في شمال دارفور، في شكل دراسة مختصرة تحكي عن اثر إدارة النقود بشكل مشاعي على اقتصاد الولاية، وكيف يمكن أن تحدث اختلالات fluctuations على كل من الطلب الكلي والعرض الكلي على مستوى الولاية، ومن ثم اضطراب أسعار السلع الأساسية، وكيف يمكن أن تؤثر سلبا على رفاه مواطن الولاية. وقبل ظهور سوق المواسير كانت الأسواق متوازنة نوعا ما، والأسعار مستقرة ولا توجد انحرافات تستحق الاهتمام، والكتلة النقدية المتداولة عند الجمهور كانت كافية لحجم الصفقات اليومية، بل هنالك وفورات لدى الجمهور. ولكن بدخول سوق المواسير في الدورة الاقتصادية Economical Cycle اكتظ السوق بالسلع وانخفضت الأسعار بصورة ملفتة للنظر، لسببين أولا بظهور السوق بدأ مواطنو الولاية يثقون فيه ثقة عالية high certainty فأودعوا كل ما يملكون من نقود في خزائنه، وبهذا تحجم الطلب الكلي أو قلت الرغبة في الشراء. ثانيا عندما نفدت النقود من أيديهم when their hands run out of money بدأوا يودعون ما يدخرون من سلع، فمثلا بدأ راعي الماشية يسوق كل القطيع الذي يديره إلى سوق المواسير، واخذ المزارع يحفر مطامير الدخن ليودعها في السوق الذي لا يميز ما بين الجيد والردى من السلع، مقابل وريقات تحمل الألوان الصفراء والحمراء تعرف بالإيصالات، وهكذا كانت حال السلع الاخرى، ولكن سرعان ما تباع هذه السلع بأزهد الأسعار إلى تجار الجملة من أجل الحصول على النقد. وهذا السلوك أدى إلى الزيادة في العرض الكلي للسلع فاختل التوازن كما هو في الشكل أدناه. واخذ العرض الكلي للسلع يزيد، وذلك بسبب انسياب السلع نحو السوق بوساطة سوق المواسير، واخذ الطلب الكلي للسلع يتراجع، وذلك بسبب تجفيف أيدي الجمهور من النقود، وبالتالي ينتقل الاقتصاد إلى نقطة توازنية جديدة تنخفض عندها الأسعار، وهذا يعني أن اقتصاد الولاية منذ تأسيس سوق المواسير حتى النصف الأول من عمره كان يعاني من الركود Recession أما خلال النصف الثاني من عمر السوق وحتى ساعات انهياره بدأ العرض الكلي للسلع ينكمش والطلب الكلي يزيد، إلا أن الغريب في الأمر أن مواطني الولاية لم يكن لهم دور يذكر في الانكماش في العرض والزيادة في الطلب، لأنهم لا يملكون النقود ليحركوا ساكنا، ولكن الميزة النسبية لانخفاض الأسعار التي خلقها سوق المواسير منذ تأسيسه وحتى منتصف عمره جلبت تجارا جددا من خارج حدود الولاية من الولايات الاخرى والمركز، يملكون رؤوس الأموال، فانهمروا على السلع المنتجة محليا شراءً بكميات كبيرة بغرض تصديرها إلى تلك المناطق، ومن أهم السلع التي تم استنزافها بهذه الطريقة الغلال والثروة الحيوانية والحبوب الزيتية، واستمر الوضع على هذا المنوال حتى وجد مواطنو الولاية أنفسهم أمام ندرة حقيقية للسلع التي يستهلكونها. وبالتالي فإن عملية تصدير السلع بكميات كبيرة خارج حدود الولاية تعتبر أول الأسباب لحدوث تضخم الندرة والطلب المستعار عقب انهيار سوق المواسير. أما السبب الثاني للتضخم، بعد انهيار السوق وزوال وهم الشيكات واختفاء الأسعار المنخفضة المصطنعة low fabricated prices، توقف التجار المسؤولين عن عملية إمداد الأسواق بالبضائع عن مزاولة نشاطهم، لأن رؤوس أموالهم سحبت من أيديهم، ونتيجة لذلك انكمشت التجارة بل كادت تنعدم ما بين الأرياف والمدن، وانهد الجسر الذي كان يربط بين مناطق الإنتاج والاستهلاك، فبدأت الأسعار الحقيقية تبحث عن موقعها الذي تحركت منه قبل ظهور سوق المواسير، إلا إن المعطيات الجديدة لطلب وعرض السلع اختلفت تماما عن تلك التي أعطت موقع الأسعار قبل سوق المواسير، فقل عرض السلع إلى درجة أشبه بالندرة وفي المقابل زاد الطلب عليها، ورغم أن هذا الطلب مقيد بعدم وجود النقود فقد تصاعدت الأسعار بصورة درامية لن تشهدها الولاية من قبل، وبدأت مسارها وتجاوزت لتصل أعلى معدل لها عند النقطة. ولا سيما أسعار السلع الحياتية التي يعتمد عليها مواطن الولاية في معاشه اليومي، فعلى سبيل المثال نجد أن زريبة الماشية بالفاشر منذ انهيار سوق المواسير وحتى هذه اللحظة، تشهد تراجعاً لم يحدث من قبل في الكمية المعروضة من الماشية التي كانت تستورد من كل أرجاء الإقليم. فتحرك سعر كيلو لحم الضأن من 13 إلى 20جنيهاً، بنسبة 53%، وكذلك شهدت زريبة العيش «المحاصيل » نفس التراجع في كمية السلع المعروضة من الحبوب وتحرك سعر ربع الدخن «ملوتان» من15 إلى جنيها الى 20 جنيهاً بنسبة 33%، وكذلك الحال في بقية الأسواق الاخرى. وهنالك تراجع في الكميات المعروضة من الويكة فقد ارتفع سعر الرطل من 4 جنيهات الى 7 جنيهات بنسبة 75%. والصلصة الجافة من 4 إلى 5 جنيهات بنسبة 25% والزيوت من 3 الي4 جنيهات للزجاجة الواحدة بنسبة 33%، وبالتالي نجد أن متوسط الأسعار النسبية لهذه السلع الخمس التي تشكل أهم العناصر في سلة استهلاك مواطن الولاية بلغ 44%. وفقط هنالك استقرار في الكميات المعروضة من الخضروات وأسعارها، ولم تتأثر بتلك الهزات التي أحدثها سوق المواسير بالولاية. ومن ناحية أخرى نجد أن مديري سوق المواسير لن يعيروا الخضروات اهتماما كبيرا كسلع تقربهم من الاستيلاء على النقود من أيدي الجمهور، وقد يكون السبب في ذلك نسبة لقابلية الخضروات للتلف وارتباط استهلاكها بالزمن القريب، وعدم قدرتها على تحصيل النقود بكميات كبيرة في اقل فترة من الزمن. فهذه التقلبات في الأسعار أحدثت انحرافاً ملحوظاً في السلوك الاستهلاكي لمواطن الولاية، فبدلا من أنه كان يعيش الرفاه أصبح يعيش الكفاف، وتنازل كما ونوعا عن بعض السلع التي كان يستهلكها، وأصبحت بعض الأسر تخفض من وجباتها اليومية، والبعض الآخر دخل في حالة أشبه بالمجاعة، فمن المتوقع أن تنخفض منحيات رفاه المواطن أكثر من ذلك قبل موسم الحصاد المقبل، وقد تعقب ذلك حالات مجاعة وأمراض مصاحبة لها، إذ أن وضع الولاية الآن ينذر بإقبال فجوة غذائية. وهذه الآثار الاقتصادية لسوق المواسير، كان الأجدر أن يتحدث عنها وزير المالية بالولاية أو مدير فرع بنك السودان بالولاية، لأنهم هم أصحاب التفويض لمراقبة الأداء الاقتصادي والاضطرابات التي تلازمه، ولأن مصير حياة المواطن في الولاية تحت رحمة سياساتهم، لأن هذه الآثار لا يراها إلا أصحاب الاختصاص، وتحتاج إلى هيئة اقتصادية ملتزمة بالمنهج العلمي لإزالتها واختزالها في آثار سياسية وقانونية، ومحاولة حلها بطرق غير منهجية تعتبر معالجة الجهل بالجهل. وعلى كل حال فإن السوق الذي وصفته في الدراسة الاقتصادية السابقة بأنه أقبح ممارسة مالية غير مشروعة تمارس علي صفحات تاريخ الاقتصاد السوداني، عبث بما يكفي من العبث بالولاية لأكثر من عامو وترك مواطنيها بلا نقود وقد ضربتهم أمواج الركود الاقتصادي. وقبل أن يفيقوا من تلك الضربات، لسعتهم عقارب التضخم، وهم الآن يعيشون في حيرة، فمن هو المسؤول عن ذلك، وتارة يلومون أنفسهم وتارة يلومون الحكومة. وأنا شخصيا إذا ما سئلت باعتباري مواطنا عاديا عن ذلك، لوجهت اللوم إلى المواطن بنسبة 70%، والي الحكومة بوجهها السياسي على مستوى الولاية بنسبة30%، أما إذا سئلت باعتباري متخصصاً في علم الاقتصاد لوجهت اللوم بنسبة 100% إلى السلطات النقدية «بنك السودان» على مستوى المركز. وكثيرا ما أتساءل كيف ترضى تلك المؤسسة بأن تُدار النقود بأيدي العوام خارج إطار الجهاز المصرفي في هذه الولاية؟ وكيف يمكن أن ترضى بهذه الفوضى النقدية؟! Monetary Chaos باحث اقتصادي ولاية شمال دارفور- الفاشر [email protected]