الأحداث المتلاحقة التي شهدتها الساحة السياسية السودانية في الأسابيع الماضية.. أفرزت مجموعة من الحقائق عن مسألة الانفصال، وكيف أن بعض السياسيين الجنوبيين يسابقون الزمن لجعل الانفصال الخيار الأوحد للجنوبيين، ودفع المواطنين الجنوبيين للإدلاء برأيهم في الاستفتاء للتصويت للانفصال.. وهذا الاتجاه يعتبر حقيقة ماثلة أمامنا، ورغبة كامنة في حنايا أي جنوبي، بأن يجد الجنوب دولة مستقلة يرفرف عليها العلم الجنوبي.. لكن في المقابل، فإن هناك القلة المعتدلة، التي ترى أيضاً أن دولة الجنوب في الوقت الحالي ستواجه صعوبات عدة، نظراً للتحديات والمهددات الأمنية التي تحيط بالجنوب داخلياً، ومن دول الجوار الأفريقي. بعض الساسة الجنوبيين الذين يقودون الرأي العام الجنوبي للانفصال، يفكرون في دخول التاريخ وتخليد أسمائهم في دفتر الأحداث العظام، لذلك يسعون جاهدين لتحقيق هذا الغرض، لكنهم يخطئون ألف مرة في حق المواطن الجنوبي البسيط، لأن أي مكسب يأتي من أنفصال الجنوب، سيكون مكسباً معنوياً، لا يسمن ولا يغني من جوع. إن من مثيرات الاستغراب في الآونة الأخيرة، تصريحات السياسي الجنوبي الباقان المصنف بالصوت الجهور للحركة الشعبية، وحسب ما يقوله إن اتصالاته مع أعضاء مجلس الأمن ومسؤولين كبار في البيت الأبيض، توحي أنه يضمن الحصول على المساندة والدعم لدولة الجنوب، التي ربما ستُولد، أو نسمع الإعلان عنها في أي لحظة، ولا شرط أن تكون بعد الاستفتاء، ويحلم في نفس الوقت الابقاء على اتفاق نيفاشا. فالباقان يسابق الزمن لميلاد الدولة.. السؤال هنا.. هل هو حقيقة يمثل رأي الشارع الجنوبي؟ مع أن كل الدلائل والإشارات تفيد أن ما يدعو اليه الباقان هو رأي معظم الساسة والقيادات الجنوبية، وهل صوت الباقان العالي أثر على عقلية رجل الشارع الجنوبي بالقبول، أم جعله في حالة ارتباك سياسي واجتماعي؟.. حقيقة أن الرجل الجنوبي الذي يعيش في الشمال لا يجد أي فروقات بينه وبين أخيه الشمالي.. لذا فإن هستيريا الانفصال جعلته في حيرة من أمره في كيفية التواصل بعد الانفصال، مع التفكير في العواقب، والإجراءات التي تعوق حركته في تخطي الحدود، بعد أن كانت حرية التنقل والعمل مكفولة له في الشمال، والمحير في الأمر مسألة الهوية والأوراق الثبوتية، التي تتيح للمواطن الشمالي والجنوبي تخطي الحدود.. باعتبار أن هناك روابط مصاهرة وتزاوج بين الجانبين منذ سنوات طويلة. الفترة من الآن وحتى إجراء الاستفتاء، ليست كافية لاتخاذ قرار مصيري في تحديد الانفصال.. بل هناك عدة متطلبات يجب أخذها في الاعتبار، لاتخاذ مثل هذه الخطوة التاريخية.. فانشطار جزء من كل، وتحديد هويته، ليست بالعملية التي يمكن أن تمر على عجل، وبدون تريس ودراسة متأنية، لأن هناك خطوط متشابكة بين الشمال والجنوب، لا يمكن الفصل فيها في هذه الفترة القصيرة المتبقية للاستفتاء.. صحيح أن اتفاقية نيفاشا تتضمن عملية الاستفتاء كبند أساسي، ليقرر الجنوبيون بأنفسهم البقاء تحت سودان واحد أو الاستقلالية المرهونة بالتعايش السلمي، مع المحافظة على علائق وئام وأخوية وتوأمة بين الجانبين، وحتى وقت قريب لم يفكر أحد قط في أن فكرة الانفصال ستأخذ بجدية تامة، وظهور عدد من سياسيي الجنوب يبشرون بذلك، أو يسعون اليه، حتى يصل بهم الأمر للجوء إلى الدول الكبرى للمساندة والتأييد. عموماً نقول هناك عدد من الخطوات يجب أتخاذها قبل أن يصبح الانفصال حقيقة ماثلة، ويطبق على أرض الواقع منها الوصول إلى تراضٍ تام في بعض القضايا التي تعتبر هاجساً أمام تكوين دولة الجنوب، والفواصل بينها وبين الشمال.. مسألة ترسيم الحدود وتوازن القوى ومناطق التماس بين القبائل الشمالية والجنوبية، والمسألة الأمنية لتفادي أي احتراب وقتال ينشب من جديد، ثم مسألة التواجد الجنوبي بالشمال وكيفية التعامل مع هذه القضية.. هناك حقوق الشماليين بالجنوب، ومسائل أخرى عديدة تأتي تفاصيلها عند الجلوس حول طاولة المفاوضات، وحتى تأتي اللحظة الحاسمة، وعندما يجد الجميع أن الانفصال سيأتي بناءاً على رغبة أكيدة نابعة من دواخل الجنوبيين، تظل الوحدة والعيش تحت مظلة السودان الخيار المنشود لأي سوداني، يحملها السوداني في دمائه شمالياً أو جنوبياً.