أهمية المسافات: عندما أرى الإنسان لا يعرف طريق الحياة، ويختار الظلمة بدل النور، والشقاء بدلاً عن السعادة والهناء، أقول إن هذا الإنسان تفصل بينه وبين الله المسافات، ويختار له طريقاً غير طريق الله، وخلال المسافات التي تتباعد تتراكم في الطريق أحجار وصخور تجعل الطريق وعراً وقاسياً وصعباً، ولقد قيل عن يوحنا المعمدان السابق لمجئ السيد المسيح أنه يهيئ الطريق أمامه، وأنه يهيئ للرب طريقاً في قلوب الناس، وقال زكريا والد المعمدان مخاطباً ولده وهو مولود له في العمر ساعات: وَأَنْتَ أَيُّهَا ألصَّبِيُّ نَبِيَّ ألْعَلِيِّ تُدْعَى لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ ألرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ ألْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلَهِنَا ألَّتِي بِهَا أفْتَقَدَنَا ألْمُشْرَقُ مِنَ ألْعَلاَءِ. لِيُضِيءَ عَلَى ألْجَالِسِينَ فِي ألظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ألْمَوْتِ لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ ألسَّلاَمِ«.(لوقا1 79-79)، وكان هذا واضحاً أن المسافات تباعدت بين الإنسان والله، وأن الله من فرط محبته لنا، قرر أن يفتقدنا، ويهتم بأمور طريق حياتنا، وكان مجئ المعمدان، النبي يحيي نبوة عند أشعياء تقول: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ألْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ألرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي ألْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَيَصِيرُ ألْمُعَوَّجُ مُسْتَقِيماً وَألْعَرَاقِيبُ سَهْلاً.(أشعياء1: 3-4)، وهذا ما ذكره أنجيل لوقا بعد نبوة أشعياء، أي بعد ثمانية قرون: فِي أَيَّامِ رَئِيسِ ألْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا كَانَتْ كَلِمَةُ أللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي ألْبَرِّيَّةِ فَجَاءَ إِلَى جَمِيعِ ألْكُورَةِ ألْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ ألتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ألْخَطَايَا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ إِشَعْيَاءَ ألنَّبِيِّ: »صَوْتُ صَارِخٍ فِي ألْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ ألرَّبِّ أصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً. كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَتَصِيرُ ألْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً وَألشِّعَابُ طُرُقاً سَهْلَةً وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ أللهِ«.(لوقا3: 2-6)، كثيراً ما يصنع الإنسان مسافات بينه وبين الله، وعلى طول المسافات تزداد المعوجات، ويزداد الإعوجاج، ونكثر الشعاب، ولكن الله يقدم الإنسان معونته حتي يقترب إلي الله، وعنذئذ يسر الإنسان بالتقرب إلي الله وهذا وحي الله إلي أشعياء: نَادِ بِصَوْتٍ عَالٍ. لاَ تُمْسِكْ. أِرْفَعْ صَوْتَكَ كَبُوقٍ وَأَخْبِرْ شَعْبِي بِتَعَدِّيهِمْ وَبَيْتَ يَعْقُوبَ بِخَطَايَاهُمْ. وَإِيَّايَ يَطْلُبُونَ يَوْماً فَيَوْماً وَيُسَرُّونَ بِمَعْرِفَةِ طُرُقِي كَأُمَّةٍ عَمِلَتْ بِرّاً وَلَمْ تَتْرُكْ قَضَاءَ إِلَهِهَا. يَسْأَلُونَنِي عَنْ أَحْكَامِ ألْبِرِّ. يُسَرُّونَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى أللَّهِ.(أشعياء58: 1-2)، وهذا التقرب إلى الله هو السعادة بعينها، لأن الشقاء هو في الابتعاد عن الله، وكلما زادت مسافات الابتعاد كلما زاد الشقاء، إلى أن تأتي نقطة فيها تلتقي إرادتنا مع إرادة الله، وهنا تتحقق السعادة، لأننا بإرادتنا نسلم إرادتنا لله، وهكذا تقترب المسافات، وعندما يذكر القرآن الكريم عن السيد المسيح أنه وجيه في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، فإنني أعتبر أن هذه القرابة تمتد، وتزيل المسافات، حتي يتوحد الإنسان مع الله. وعندما أسمع نداء يعقوب الرسول: اِقْتَرِبُوا إِلَى أللَّهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا ألْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي ألرَّأْيَيْنِ. اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا.(يعقوب4:8-9). وهنا يأتي إعلان داود عن حسن الأقتراب إلى الله: أَمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَابُ إِلَى أللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِالسَّيِّدِ ألرَّبِّ مَلْجَإِي لِأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ.(مزمور28:73)، والمسافات بيننا وبين الناس تحتاج منا دوماً إلى مبادرة لكي تقترب، ويصير الكل قريباً إلينا وهنا يقول السيد المسيح: إن أخطأ إليك أخوك فأذهب وعاتبه. وفاء الحلو: وتحت عنوان المسافات يأتي المقال التأملي الذي كتبته وفاء، في عدد مارس 2011م من مجلة العربي، ولها رأي تأملي في المسافات قرباً وابتعاداً، فإلي ما كتبت هذه الأديبة البحرينية: المسافات نبتدعها أو نجبر عليها، وتبقي أن أعظم المسافات بؤساً هي ما تبعد القريب وتجبر الإنسان على الرحيل... فكثيرون هم من رحلوا عن حدود الأمكنة ليستقروا في الأزمنة. وكثيرون هم من نراهم وتأبي المسافات الأقتراب منهم، ففي الاقتراب فساد وفي البعد سحر وبهاء. يا لتلك المسافات المخيفة التي تقتل تارة وتحيي تارة، وتنعش الأمل وتتحرش بتفاصيل الذاكرة كيف نتركها تعبث بنا وتلعب بمكنونات النفس وتربك الروح؟! وبين الحلم والواقع مسافة يقربها الطموح ويبعدها الخدر. وبين الأم وجنينها مسافة تنتهي بالولادة، ويبدأ الإقتراب المادي من أول لمسة بين الأصل والفرع. وبين الأرض والزرع مسافة تفسد بمجرد القطع. ولولا المسافة بين الشمس والأرض لاحترقت الكرة الأرضية، ولولا المسافة بين القمر والأرض لهلكت وفنيت الأرض. وبين الحياة والموت مسافة يقطعها القدر. وها هو الإنسان يبتدع المسافات المصطنعة بين أخيه الإنسان، ووحدة الثري يقربهما ويصحح أوضاعهما. وبين المرأة والرجل مسافة تبعدهما طرق التربية التقليدية والموروثات البغيضة، ووحدة الرجوع إلى ذاتهما والعودة إلى الفطرة السليمة يصححان ما أفسده الزمن. وحدها اللحظة الحميمية بين الجنسين تصمت فيها الكلمات وتتقارب المسافات ويبدأ التلاحم حين يحدث الزلزال وتتفجر براكين الجسد وتبدأ وتنتهي الحياة. وتبقى أن المسافات الشاسعة بين ما نقوله وما نريده وما هو واقع يخلق لدى الإنسان واقعاً تعيساً يبعده عن السلام الداخلي، ويتنامى لديه السلوك والشعور بالانفصام الشخصي. فحذار من الإنغماس في الخارج والبعد عن الداخل، فهذا هو منبع الموبقات، فبقاء الجسد والنفس، والروح في انسجام وتناغم هي محاولة للوصول إلى الكمال الإنساني في أبهى صورة. ويبقي ألا نهمل، ونحن نتحدث عن المسافات، التطرق إلى المسافة بين الإنسان وربه التي يفترض أن تكون قريبة ما دام هو تمسك بالفضيلة، ولكن قد يحدث أن يبذل الإنسان جهوداً كبيرة في إفساد تلك العلاقة الروحانية بابتداع الوسائط والحجر على القلوب وإغتيال العقول. ولهذا يجب أن يحترم الإنسان علاقته مع الأشخاص والأشياء، فلا يبعد كثيراً لكي لا ينسى أو يتناسى، ولا يقترب كثيراً فيتماهى في الضباب، وبالتجربة والخبرة يتعلم الإنسان المقاييس الحقيقية للمسافات في الحياة.