كل الذين يروّجون لنظام إقرار الشحنات المسبق (ACD) باعتباره العصا السحرية التي ستقضي على تلاعب المستوردين بالفواتير، إما يجهلون كيف تعمل الجمارك فعلياً، أو يتعمدون تضليل الرأي العام، فالقول بأن ال ACD سيمنع التلاعب في القيم الجمركية ليس سوى ضرب من السذاجة، وحتى نكون أكثر دقة فهو ذر للرماد في العيون، لأن الحقيقة البسيطة التي يتجاهلها المهللون للنظام الجديد، أن النظام الجمركي الحالي أكثر دقة وصرامة في التعامل مع قيم السلع المستوردة مما يُراد لنا تصديقه، وكلنا نعرف، بقليل من السؤال أو التقصي، أن الجمارك السودانية لا تبدأ من فراغ، بل تحتفظ بسجلات تراكمية دقيقة لأسعار السلع في الأسواق العالمية، طن القمح، على سبيل المثال، إذا كان مثبتاً في سجلات الجمارك بقيمة 200 دولار، فلن تمر فاتورة ب120 دولاراً مهما كانت الجهة التي أصدرتها، بل ترفع القيمة إلى السعر المرجعي، وتُحصَّل الرسوم على أساسه، ثم يُعاقَب المستورد بتهمة التخفيض المتعمد (Under Invoice)، أسالوا أي شخص يعمل في الجمارك، أو تعامل معها سيقول لكم ذلك. فإذا كان نظام ال ACD – كما يُروّج له البعض– سيفرض على الجمارك قبول أي قيمة تُرفع عبر المنصة، لمجرد أن "شركة" ما صدّقت عليها من خارج البلاد، فحينها فعلاً على الاقتصاد السلام. الطريق في تحصيل الإيرادات السيادية واحد، لا مجاملة فيه ولا ذكاء صناعي، لأن الجمارك لا تلاحق مصداقية الفواتير عبر الغرف التجارية في العالم، ولا تراسل الجمارك النظيرة في دول المنشأ، بل تعتمد نظاماً رقمياً داخلياً صارماً لتقييم القيم، أثبت – حتى الآن – أنه الأكثر أماناً وضماناً لتحصيل الإيرادات الحقيقية، أما التلاعب باسم "التحديث"، فهو باب آخر للخراب لا علاقة له بالإصلاح، ثمة جهة مستفيدة، وأخرى تتلاعب بالمعلومات، نريد أن نعرف من هى، ولماذا تتخفى وراء الكواليس؟ أما بخصوص ما يتعلق بوصف البضاعة، فالجمارك، كانت ولا تزال، تقبل الوصف الوارد في المستندات، وتحديداً بوليصة الشحن، من حيث المبدأ فقط، تُقيِّم الرسوم وتُحصَّل حتى قبل وصول البضاعة للميناء، لكن الإفراج لا يتم إلا بعد الكشف الجمركي داخل الحظيرة، والسبب معروف طبعاً، لأن وصف البضاعة قد يكون مضللاً عمداً، مثل أن تُكتب "مبيدات" وتُشحن مخدرات، أو تُكتب "عربة مستعملة" وتصل جديدة، وبالتالي لا توجد جمارك في العالم تستطيع الكشف على البضائع وهي في بلد المنشأ أو في عرض البحر. لذلك، من يظن أن الجمارك ستعتمد وصف البضاعة المرفوع عبر نظام ال ACD اعتماداً نهائياً، ثم تغمض عينيها بعد تحصيل الرسوم، إما ساذج أو يُراد له أن يكون كذلك، وإن كانت الجمارك ستفعل ذلك، فهي لا تُخطئ التقدير، بل تتعمد خراب البلد بنية إصلاحه. وهنا نقول للمصلح البعيد، الذي يدعم المليشيا ويرسل لها الأسلحة والمرتزقة " إصلاح بتاع فنيلتك"! أما الشركة التي تصدر شهادات ال ACD قبل الشحن، فهي معروفة بالاسم والعنوان: ITR LOGISTIC AND TRADE DMCC – FREE ZONE DUBAI، وهى شركة إماراتية، موجودة داخل النظام نفسه، تعرّف عن نفسها بنفسها على الإنترنت، وستكون الوصي الحصري على بيانات الاستيراد السودانية، نيابة عن جميع المستوردين وشركات الشحن. نحن هنا لا نتحدث عن الشركة التي صممت المنصة أو قامت بتشغيلها تقنياً؛ فذلك جهد فني لا يهم كثيراً من يقدمه، نحن نتحدث عن الجهة التي تمتلك أسرار التجارة السودانية، وتتحصل على مقابل ذلك بالدولار، وهى ستة دولارات عن كل طن يدخل البلاد. والسؤال الخطير الذي لا يجد إجابة: لماذا يُمنع على الشركات الوطنية استخدام المنصة وإصدار شهادات ال ACD؟ ولمصلحة من تُحتكر هذه الخدمة خارج الحدود؟ وعلى صعيد الزمن، لا يقدّم النظام الجديد أي اختصار حقيقي، بل يضيف سلسلة إجراءات وخطوات قد تمتد لأيام أو أسابيع بلا جدوى عملية، سوى تعقيد الاستيراد وتعطيل الحركة، نفس الجرجرة! الخلاصة واضحة لمن يريد أن يرى أو من ألقى السمع وهو شهيد: الذين يقفون خلف نظام ال ACD لا يستهدفون الإصلاح، بل إعادة هندسة التلاعب في الإيرادات، المعلومات السيادية، وفتح سوق جديدة للمتاجرة بأسرار الصفقات تحت لافتة "التحديث".