السؤال الذي سيظل طارحاً لنفسه متمدداً في أفق ساحات الأمن والسياسة والجغرافيا والتاريخ، هو (ثم ماذا بعد اجتياح القوات المسلحة لمنطقة أبيي؟) الإجابات ستختلف من شخص لآخر ومن حزب لحزب ومن مؤسسة لمؤسسة، لكن الذي لن يختلف عليه اثنان هو حالة الرضا والغبطة والقبول التي اجتاحت نفوس كل أبناء الشمال الذين عانوا من كيد الحركة الشعبية وجيشها في جنوب كردفان وفي «أبيي» وفي النيل الأزرق.. بل في كل السودان.. كما لن يختلف اثنان حول الهدف من سيطرة القوات المسلحة على منطقة «أبيي»، وهو بسط الأمن ومنع الفوضى وإنهاء التحايل على الدستور بالقفز على اتفاقية السلام الشامل بدخول جيش الحركة الشعبية (متنكراً) في «أزياء شرطة الجنوب». ولا يزال السؤال قائماً: (ثم ماذا بعد؟) والإجابة ستجيء - قفزاً على الوقائع - بأن حكومة السودان الحالية والتي تدير شأنها من «الخرطوم» لن تعترف بدولة الجنوب القادمة في التاسع من يوليو المقبل، مهما قال السياسيون وقيادات المؤتمر الوطني ومهما أكدوا على الاعتراف. رجوعاً للوقائع نجد أن المنطق يسند هذا الاستنتاج الذي لا نرى فيه شططاً أو تجاوزاً للواقع.. والذي يحدث في «أبيي» الآن سبقته استفزازات وتحرشات وانتهاكات أفرغت كل مخزون الصبر من صدر الحكومة الاتحادية، ومن صدر القوات المسلحة، ومن صدر المؤتمر الوطني، ومن صدور جميع أبناء المسيرية قبل هؤلاء وأولئك. وللإجابة على السؤال المطروح تكون البداية سؤالاً جوهرياً نعتبره مدخلاً للإجابة على السؤال الأول، وهو (ماهي مطلوبات الاعتراف بدولة الجنوبالجديدة المرتقبة في التاسع من يوليو المقبل.. بل ما هي مطلوبات الاعتراف بأي دولة جديدة؟). نجيب على ذلك بأنه ينبغي للاعتراف بأية دولة عند إعلان قيامها أو استقلالها، أن تفي الدولة الوليدة بالمتطلبات التي تتسق مع مباديء ومواثيق الأممالمتحدة، بحيث لا يتعارض استقلال الدولة مع سيادة أية دولة أخرى. إذن فلنكن أكثر صراحة حول ما يجري على الأرض الآن من مواجهات بين القوات المسلحة السودانية وبين جيش الحركة الشعبية الذي تراجع إلى ما وراء بحر العرب حسب التقارير الواردة من مناطق العمليات إن جازت هذه التسمية - فالمواجهات الحالية تصنِّف جيش الحركة الشعبية ك (عدو) للشمال كله قبل أن يكون خصماً للقوات المسلحة فالصراع الآن هو صراع على السيادة وعلى الحدود وعلى منطقة عزيزة على كل مواطن سوداني في الشمال وهي منطقة «أبيي» الشمالية والتي ستظل كذلك. وهناك أسباب أخرى تجعل من الصعب على «الخرطوم» أن تعترف بدولة الجنوب الوليدة غير الصراع على السيادة، لكنها مرتبطة أيضاً بسيادة الدولة، وهي بإختصار شديد، وجود ما يتجاوز الثلاثين ألف جندي من أبناء النيل الأزرق وجبال النوبة في صفوف الجيش الشعبي.. وهم قطعاً بحكم التاريخ وطبيعة الجغرافيا، ووفقاً للدستور القائم على اتفاقية السلام الشامل، هم مواطنون شماليون يجب أن يتم تسريحهم من الجيش الشعبي حتى يعودوا إلى وطنهم وأهلهم وأسرهم مثلما يجري الآن تسريح عشرات الآلاف من أبناء الجنوب من القوات المسلحة وقوات الشرطة والأمن.. لذلك نرى أن السودان لن يعترف بدولة الجنوبالجديدة ما لم يتم إطلاق سراح جميع الضباط والصف والجنود من أبناء منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة، أو أي مناطق شمالية أخرى قبل التاريخ المحدد للانفصال. و.. قد يسأل سائل عن أهمية إعتراف أو عدم إعتراف حكومة السودان بالدولة الجنوبية القادمة، فنقول إنه إن أحجمت «الخرطوم» عن الاعتراف بدولة الجنوب فإن ذلك يعني إحجام كل الدول العربية عن الاعتراف بالدولة الجديدة، أو هكذا سيكون الأمر من داخل الجامعة العربية.. وكذلك يكون الحال بالنسبة للعديد من الدول والأقطار الإسلامية المنضوية تحت رايات رابطة العالم الإسلامي أو كيانات إسلامية جامعة. ونرى أن تردد الدول العربية في الإعتراف بدولة الجنوب سيقود حتماً إلى تأجيل معظم الدول الأفريقية لاعترافها بالدولة الجنوبيةالجديدة وقد تحدث تحركات مؤثرة تغيّر من اتجاهات المؤشر داخل الاتحاد الأفريقي ليصبح مؤشراً سالباً لا يؤشر نحو الاعتراف.. ويمكن أيضاً للدبلوماسية السودانية الراسخة ذات الخبرات العريضة والتجارب الواسعة أن تلعب دوراً كبيراً في التأثير - ومنذ الآن - على مواقف دول أوربية تقاربت مؤخراً مع الخرطوم وقد يحدث إختراق ملموس للاتحاد الأوربي حتى يؤجل أو يعطل إعترافه بدولة الجنوبالجديدة، خاصة بعد الإعلان عن خروقات الحركة الشعبية وجيشها، وبعد الاعتداءات المؤسفة والآثمة التي تعرض لها الجيش السوداني وقوات الأممالمتحدة مؤخراً في أبيي. إذن ماهو المطلوب من حكومة الجنوب، ومن الحركة الشعبية لنيل الاعتراف الإقليمي والدولي بالدولة الجديدة؟ يصبح المطلوب لنيل الاعتراف بالدولة الجديدة من قبل الدولة الأم سعي الحركة الشعبية وحكومة الجنوب وعملهما معاً للبحث عن أعجل الطرق وأسرعها لتسريح أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق وإعادتهم لمناطقهم ولا نحسب إلا أن هذا القرار (العاقل) سيجد كل العون من المجتمع الدولي إن كان الأمر متعلقاً بدفع استحقاقات هؤلاء المسرَّحين عقب انتهاء خدمتهم - كما أننا لا نتوقع إن سارت الأمور في هذا الاتجاه أن ترفض القوات المسلحة السودانية استيعاب العائدين من جيش الحركة في صفوفها دون استثناء في صفوفها لسببين أولهما أنهم مواطنون سودانيون شماليون يحق لهم الالتحاق بصفوف القوات المسلحة، والثاني أن استيعابهم في صفوفها سيسد الفجوة الناتجة عن الاستغناء عن أبناء الجنوب. أما ماهو أهم من كل ذلك، وحتى تتمتع كل دولة في الشمال والجنوب بسيادتها الكاملة على أراضيها، فهو ضرورة مغادرة وحدات الأممالمتحدة الموجودة على أراضي الشمال والجنوب، مواقعها مع بداية الترتيبات الخاصة بالانفصال، خاصة أن أسباب وجودها تكون قد انتفت وهي التي كانت مكلفة بمراقبة إنفاذ اتفاقية السلام، خاصة وأنها لم تقم بعملها بالصورة الاحترافية المطلوبة.. وهذا يعني أن تنشيء الدولتان آليات تمكنهما من معالجة الخلافات التي تنشأ بين الحين والآخر وهي متوقعة بحسبان أن الحدود بين الدولتين والتي تتجاوز الألفين ومائتي كيلومتر تُعد من أطول الحدود بين الدول. اللهم قد بلغت.. اللهم فأشهد.