المصطلح هو مفردة أو تعبير يتواضع عليه الناس في مجتمع معين ازاء مفهوم محدد.. والعلمانية secular ism مصطلح معين المعنى، ومفاده (الدنيوية)، وإذا كان البعض يظن إن هذه الكلمة منسوبة الى العلم فإن الحقيقة غير ذلك، لأن العلمانية إنما هي منسوبة الى كلمة العالم، لذا قالوا علمانية بفتح العين بمعنى عالمانية. والمقصود بالعالمانية أو الدنيوية هو عدم الخضوع لشروط الغيبيات التي يصعب اثباتها والاستيثاق منها عبر الاختبار المادي، وبالتالي لا يخضع العلمانيون لأوامر الله عز وجل حينما يجتمعون، فالله سبحانه وتعالى من الغيبيات التي يؤمن بها البعض ويكذبها أو لا يهتم بها آخرون، وطالما هناك من يؤمن بأركان الإيمان (الله وهو الرب والاله، البعث والحساب، والأنبياء المرسلين بكتب مقدسة فيها أوامر ونواة من السماء، والملائكة والقضاء والقدر).. وفي الوقت ذاته هناك من يراها ظنوناً فقط، فإن على الناس أن يلتقوا حول مع ما يجمعهم من آراء شخصية حرة، وذلك لإدارة شؤون حياتهم بسلام، لا أن ينسب بعضهم رأيه الى مصدر غير متفق عليه! هذه هي العلمانية. وقد ذكرنا ما ذكرنا ههنا لسببين، هما تبيان جوهر وأبعاد مفهوم هذا المصطلح الرائج، وثانياً لكي لا يخاتل البعض فيقول: والله العلمانية بالنسبة لي هي بس فصل الدين عن الدولة!، إذ لا يجوز أن نفهم المصطلحات على كيفنا، بل نفهمها على نحو ما جرى التواضع عليه بين أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ومن أهل الذكر العدول الانسياكولوبيديا. بمعنى أن من أراد أن يكون علمانياً فهو مخير، ولكن على هذا الأساس وهو (الله ما معانا إذا اجتمعنا نتفاهم!)، بل نحتكم الى آرائنا الحرة المنطلقة من أسس مرتبطة بمعطيات هذا العالم المادي وحده، وأما من يريد الخضوع لله وأوامر الله أو لإرضاء غيره سبحانه- من الآلهة فعليه به ولكن على المستوى الشخصي أو في المعابد المغلقة التي لا تدير شؤون الناس العامة، وإنما تدير معتقدات وطقوس فئة منهم فحسب. وعوداً على ميسم المقالة، فإن العلمانية تطورت فتحولت مع الوقت من موقف اجرائي فاصل بين الايمانيات والماديات فيما يلي الشأن العام، الى دين متكامل الأركان.. كيف؟ الدين هو منهج وطريقة الحياة ونظامها المتبع، والعبادة معناها الطاعة والاتباع رهباً ورغباً ازاء مقدس مركزي، وإذا طبقنا هذه المعطيات فإننا سنكتشف الآتي: الاله المعبود عند العلمانيين (الجادين طبعاً) هو العقل/ النفس، فتراهم يدعون الى الخضوع له وطاعته وحده لا شريك له، عبر تقوى (الحرية) التي تمثل جوهر عقيدتهم، ومن العقل/النفس تتنزل الآيات البينات وتهبط الرسالات، فكتاب العلمانيين المقدس هو منجزات العلوم المادية والنظريات الفكرية والفلسفية العظيمة، وأما الطفرات اللافتة مثل النعجة دوللي أو التقنيات الحديثة فهي من معجزات هذا الاله المعبود الذي لا يجوز اتباع شريعة سوى شريعته، ولكن كيف يشرع العقل للمجتمع شرعاً موحداً وفي الدنيا مليارات العقول/ الانفس (التي تدعي الالوهية والربوبية!)؟، لقد وجدوا الحل في الحوار وبلورة الاتفاق، بعد إسناد الأمر الى العقول المستنيرة، فكانت وثيقة حقوق الإنسان، تلك هي الشريعة الغراء المقدسة بالنسبة للعلمانيين ودونها خوض الدم، إذ تفرض بالقوة على شعوب الأرض التي لا تدخل في دين العقل افواجا. ولكن إذا كانت الليبرالية والاشتراكية والقومية الخ هي مذاهب طوائف العلمانيين فمن هم أنبياء هذا الدين الوضعي؟ إنهم فطاحلة العلماء والفلاسفة رسل العقل، بينما أولياؤهم الصالحون هم المبدعون عموماً، ففيهم تتجلى حكمة العقل وفيوضاته الرؤيوية، ولذا يجتمع العلمانيون على أعتاب هؤلاء الأولياء ملتمسين الكرامات والبركات بخشوع ثم بجذب وشطح يعبر عنه بالتصفيق! ولدين العلمانية كهنة ومبشرون كبار وصغار تجدهم نشطاء مبشرين ومنذرين في منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الإنسان، وأهم حقوق الإنسان الحرية طبعاً:(حرية التعبير، حرية اللبس، حرية الأكل والشرب، حرية العلاقات والجنس سفاحاً أو شذوذاً الخ...) الحرية المطلقة، فالحرية أساس العقيدة وتقواها وقد أفلح من حررها النفس- وقد خاب من دساها في قيود التابوهات- فهي روح التقرب الى العقل/ النفس. جهاد العلمانيين هو النضال من أجل الحرية وتطبيق شريعة (ميثاق حقوق الإنسان) بالقوة، وبالتالي فليس غريباً أن يسموا موتاهم بشهداء الحرية والإنسانية.. وليس غريباً أن يكون لهم متشددوهم ومهووسوهم الذين يريدون فرض أحكام دينهم على الكفار، ليخرجوهم من الظلمات الى النور، والكفار قطعاً هم اتباع الديانات السماوية الجادون، لذلك يسمونهم الظلاميون! ويسمون علماء الدين السماوي فقهاء الظلام، وفي المقابل يسمون الترويج لآيات العقل والفكر وحقوق الإنسان: التنوير! وإذا كانت الأديان السماوية قد اشترطت تبنيها أولاً لكي يتساوى الناس جميعاً أبيضهم وأسودهم، فإن الدين العلماني المبعوث للناس كافة أيضا يساوي بينهم جميعاً، شريطة أن تنخرط الشعوب فيه وتطبق شريعته المقدسة المذكورة. إن العلمانية دين وضعي، ويريد أهله أن يظهروه على الدين كله ولو كره الكافرون.