البرهان يعلن تضامن السودان الكامل مع قطر    بدء إجراءات سفر الطلاب السودانيين بعد اعتماد التأشيرات بالقاهرة    موقع فرنسي يكذب الجيش السوداني بشأن حلايب وشلاتين    أمير قطر: إذا كانت إسرائيل تريد اغتيال القيادة السياسية ل"حماس" فلماذا تفاوضهم؟    سبب استقدام الشاب أموريوم لتدريب اليونايتد هو نتائجه المذهلة مع سبورتنغ لشبونة    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    أمير قطر: بلادي تعرضت لهجوم غادر.. وعازمون على مواجهة عدوان إسرائيل    السودان يستعيد عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد العربي لكرة القدم    السيتي يتجاوز يونايتد في الديربي    الهلال على موعد مع التاريخ في نهائي سيكافا أمام سينغيدا بلاك استارز التنزاني    سِيكَافا وفَن التّزحلق عَلَى الحَنِين    السودان يردّ على عقوبات الخزانة الأمريكية    ركابي حسن يعقوب يكتب: ماذا يعني تنصيب حميدتي رئيساً للحكومة الموازية؟    شاهد بالفيديو.. الناشطة المثيرة للجدل "زارا" التي وقع الفنان شريف الفحيل في غرامها تعترف بحبها الشديد للمال وتصدم المطرب: (أرغب في الزواج من رجل يملك أكثر من مليون دولار)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفتح النار على المطربة إيمان الشريف: (المجهود البتعملي عشان تطبلي لطرف تاني قدميه لزوجك لأنك مقصرة معه ولا تعطيه إهتمام)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    محمد صلاح يضرب شباك بيرنلى ويُحلق ب"ليفربول" على قمة البريميرليج    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    لامين يامال: هكذا سأحتفل إذا فزت بالكرة الذهبية    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    ترامب يلوح بفرض عقوبات كبيرة على روسيا    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    أرميكا علي حافة الهاوية    انتقادات عربية وأممية.. مجلس الأمن يدين الضربات في قطر    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الدولة العلمانية (1 من 3) .. بقلم: د. امين حامد زين العابدين
نشر في سودانيل يوم 16 - 12 - 2011


amin zainelabdin [[email protected]]
"لا أعارض كمسلم أي شيء يمارسه البوذيون وأصحاب الملل الأخرى حسبما تقتضيه أديانهم... ولكن تبني الدولة للبوذية كدين رسمي سيؤدي إلى تصور البوذيين بأن لهم دوراً خاصاً في الحياة الإداريّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والتربوية لبورما... كما سيقود تبني ديانة رسميّة للدولة إلى فتح الباب للمتطرفين وازدياد مطالبهم استناداً على الدين... وعلمنا بأن الدستور المقترح سينص على أن يكون رئيس الجمهورية والوزراء ورئيس القضاء وقائد الجيش من البوذيين الأمر الذي ستقاومه الأقليات الدينية." رشيد، زعيم المسلمين فى بورما.
Cited in D. Smith, ed, Religion, Politics and Social change in the Third World (New York, 1971) pp.26-27.
كان من أهمّ أهداف الحركة الشعبية لتحرير السودان عند ظهورها فى عام 1983م تأسيس دولة علمانيّة يعترف دستورها بمبدأ فصل الدين عن الدولة باعتباره الإطار الأمثل لإعادة صياغة السودان الموحد على أسس جديدة لأجل تحقيق الاشتراكية والعدالة والوحدة الوطنية. ولم تطرح الحركة الشعبية في أدبها السياسي شرحاً لمفهوم الدولة العلمانيّة يتجاوز الخطاب الهتافي الذي يطالب بفصل الدين عن الدولة. فهل يشير مبدأ فصل الدين عن الدولة أيضاً إلى فصل الأحكام الأخلاقية عن العملية السياسية والقانونية؟ وهل يؤكدون الاستقلال الشخصي للذات وحرية الفرد للاختيار بغض النظر عن الواجبات الأخلاقيّة للمجتمع؟ وهل يتفقون مع الرأي العلماني المتطرف الذي يعتقد بضرورة "وضع معتقداتنا الأخلاقيّة والدينيّة بين قوسين عندما نتناقش فى أمور السياسة والقانون." والذى يترتب عليه منع إصدار أي تشريع يستند على حجة دينية؟ ويعزى التفسير الضيق والمحدود لمفهوم العلمانيّة الذي طرحته الحركة الشعبية إلى اعتبارها له ككتلة واحدة صماء Monolithic وتناوله من منظور أحادي مما أدى إلى اختزاله في معنى وحيد وهو فصل الدين عن الدولة. ويفسر هذا السبب أيضاً رفض الجبهة الإسلاميّة لمفهوم الدولة العلمانية بحجة عدائها للدين واستبعادها له عن الحياة العامة والمجتمع.
وسنتناول في الجزء الأول من هذا الفصل تطور مفهوم العلاقة بين الدين والدولة عبر التاريخ حيث يتضح من خلاله وجود عدة معاني لمصطلح العلمانيّة واعتراف الدولة العلمانيّة بدور الدين فى الحياة العامة ومواءمته في شؤون الدولة. ويعالج الجزء الثاني طبيعة وخصائص الدولة العلمانيّة الحديثة ويناقش بعد ذلك الأصول التاريخية للدولة العلمانيّة الديمقراطية التي توائم بين الدين والدولة كما يمثلها النموذج البريطاني. كما نناقش في هذا الجزء النموذج الأمريكي للدولة العلمانيّة والظروف التاريخية التي أدت إلى تأكيده على مبدأ فصل الدين عن الدولة. ونختتم الفصل بنبذة موجزة عن الدولة العلمانيّة الاستبداديّة فى العصر الحديث.
العلمانية وتطور مفهوم العلاقة بين الدين والدولة عبر التاريخ
يشتق مصطلح العلمانيّة من الكلمة اللاتينية saeculum التي تعني العصر فصارت تفهم بمعنى حياة البشر الزمانيّة فى هذا العالم. وكان تعريف د. جونسون في قاموسه لمعنى العلمانيّة بأنها الاهتمام بالأشياء التي تخص الحياة الراهنة. وينعكس هذا المعنى في الترجمة العربية للمصطلح، إذ يقول د. زكي نجيب محمود: (سواء كان المتحدث مهاجماً أم مدافعاً فكلاهما ينطق اللفظة المكسورة العين وكأنها منسوبة إلى العلم مع أن حقيقتها هي العين مفتوحة نسبة إلى هذا العالم الذي نقضي فيه حياتنا الدنيا...)2 واستخدم المصطلح فى العصور الوسطى كصفة للتمييز بين المجال الديني والمجال المدني، كما استخدم للإشارة إلى الأشخاص المدنيين العاديين لتمييزهم عن رجال الدين مثل القساوسة والرهبان. وبعد ظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السادس عشر واحتدام النزاع بين الكاثوليكيّة والمذهب البروتستانتي الجديد، بدأ استخدام مصطلح العلمنة Secularization للإشارة إلى مصادرة السلطات المدنية لممتلكات الكنيسة وتحويل المؤسسات الكنسية إلى هيئات مدنية تديرها وتشرف عليها الدولة.3 وطرأ تغيير على مفهوم العلمنة بهذا المعنى الأخير بعد التطور التكنولوجي الذى شهدته أوروبا بعد الثورة الصناعية لتعنى التحديث ونظرية العلمنة التي ترى "بأن التحديث يقود بالضرورة التي تقهقر الدين في المجتمع وفي أذهان الأفراد."4
ويتضمن المعنى العام للعلمانيّة فكرة تحديد العلاقة في المجتمعات الحديثة بين مؤسستي الدين والدولة التي وصفها الفيلسوف جون لوك بقوله: "اعتقد أنه من الضروري بمكان التمييز بدقة بين الحكومة المدنية والدين لكي تتم تسوية الحدود العادلة التي تقع بينهما."5 وتعرض مفهوم العلاقة بين الدين والدولة في المراحل المختلفة لتطوره عبر التاريخ إلى عدة تغييرات تراوحت بين الدمج أو المواءمة أو الفصل بينهما. وكان الدين هو الإطار الشامل للحضارات القديمة وداعي وجودها، فارتبطت عبادة الملك أو الفرعون المقدس في الممالك المصرية القديمة وعبادة تموز وعشتار في ممالك سومر وأكاد بالحماية التي توفرها لمدن هذه الحضارات. وكان سكان الحضارة اليونانية القديمة يعتقدون بأن الآلهة ترعى وتحمي معظم الوظائف الدينية والمدنية وأن الآلهة زيوس وأثينا وهيرميز يشرفون على معظم نشاطات المسئولين في مكان التجمع السياسي الرئيسي للمواطنين الذي يناقشون فيه شؤون الدولة والمعروف بالأغورا Agora.6 وتمّ تأسيس معابد في الأغورا للآلهة زيوس، أبولو وأثينا.7 وينعكس الدمج والتداخل بين الدين والدولة في المدن اليونانيّة القديمة في المكانة الهامة للطقوس الدينية في الحروب واعتقاد المواطنين بأن الآلهة قد ساعدتهم في تحقيق النصر والتعبير عن شكرهم للآلهة في معابدهم مثل تعليق الدروع في حائط المعبد أو نصب تمثال جديد للآلهة في معبده.8
أدى التعايش بين الدين والدولة في المجتمعات اليونانيّة القديمة وافتقارهم لكتاب مقدس إلى ظهور النظرة العلميّة والإيمان بقدرة العقل البشري لفهم مشكلات الكون والوجود الإنساني وحلها. لذلك نجد أن الدين هو أحد المكونات الأساسيّة للعقلانية الإنسانية في الفكر اليوناني القديم. فاعتبر اناكسيمان الوجود الإنساني بأنه "عمل ظالم غير تقي واغتصاب خاطيء يستوجب معاناة الأفراد والتكفير عن ذنوبهم."9 واتسمت عقلانية سقراط بالتدين العميق كما انعكست في آرائه التي تحث البشر على" الاهتمام بأرواحهم" وأزلية الروح كما أوضحها أفلاطون في الجمهورية وفايدو.10 وأفرزت العقلانية اليونانية قيّم الديمقراطية والتسامح والتي صارت من أهمّ سمات المجتمعات المعاصرة. فوصف بركليس الديمقراطية في القرن الخامس قبل الميلاد بقوله: "تكفل قوانيننا المساواة في العدل لكل الأشخاص عند النظر في خصوماتهم الشخصية... ولا نتجاهل ما يستحقه التميز، فالشخص المتفوق يمنح الأفضلية فى الخدمة العامة ليس كامتياز ولكن كمكافأة لجهده... ولا ينظر للنقاش كعقبة في طريق الممارسة السياسيّة وإنما شرط ضروري للتصرف بحكمة... كما نعتقد أن السعادة هي ثمرة للحرية."11
وتمّ استلهام مفهوم التسامح من مقولة سقراط "اعرف نفسك واعترف كم هو قليل ما تعرفه." فذكر الفيلسوف كارل بوبر أن هذه المقولة تتضمن مفهوم تعرض الإنسان للخطأ "التي جعلها نيكولاسي القوصي وايرازمس ومونتاني ولوك وفولتير وجون ستيوارت مل وبرتراند رسل أساساً لمذهب التسامح."12 وكان تعريف فولتير للتسامح في قاموسه "أنه النتيجة الضرورية لإنسانيتنا فنحن عرضه للوقوع في الخطأ فدعنا نغفر لكل شخص خطأه."13 وتأثرت الثورة العلميّة الحديثة التي انعكست في نظرية كوبرنكس بفكرة الخير الدينيّة لأفلاطون والذي احتلت فيها الشمس المكان الأعلى في السلسلة العظمى للصيرورة. وأشار كارل بوبر إلى ذلك بقوله: "كان من الصعب تصور أن تدور الشمس حول الأرض بعد أن منحت المكانة الأولى وتمّ وضعها في مصاف الآلهة في ترتيب الأشياء المحسوسة. لذلك فإن مركز الكون هو أنسب مكان لنجم له هذه المكانة السامية."14 وأوضح كارل بوبر أثر النظرية الأفلاطونيّة للمصدر الإلهي للمعرفة Anamnesis في نظرية المعرفة لدى بيكون وديكارت التي تستند على "المذهب الذي يقول أنّ حدسنا الفكري لا يخدعنا لأنّ الله هو الحقيقة ولا يخدعنا."15
وكان الدين جزءاً لا ينفصم من الدولة والحياة العامة في الإمبراطورية الرومانية التى ورثت التراث الفكري اليوناني.16 وكان الحكام الذين ينتخبهم الشعب الروماني يقومون بأداء أهمّ الطقوس الدينيّة ويقوم الكهنة بأداء النصح للحكام في احتفالات أداء القسم والقرابين والصلاة.17 واستمر مفهوم الدمج بين الدين والدولة في الإمبراطورية الرومانية بعد أن تخلت عن الوثنية واعتناق الإمبراطور قسطنطين الدين المسيحي في القرن الرابع الميلادي. وبانهيار الإمبراطورية الرومانية في غرب أوروبا عندما عزلت القبائل الجرمانية الإمبراطور رومولوس فى عام 476م وتنصيبها لقائدهم أودواكر ملكاً لإيطاليا، بدأت أوروبا في الإنقسام تدريجياً إلى عدة دويلات لتبدأ الحقبة المعروفة في تاريخ أوروبا بالعصور المظلمة. واستغل البابا فترة الفوضى التي عمّت أوروبا لتنظيم الكنيسة كمؤسسة مستقلة عن الدولة استناداً على التراث الإداري للإمبراطورية الرومانية ولنشر المسيحية وسط القبائل الجرمانية. وعندما نجح شارلمان في مشروعه لإحياء الإمبراطورية الرومانية قام البابا ليو الثالث بعقد مراسم تتويجه كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة في ديسمبر 800م الأمر الذي يعكس نمو نفوذ الكنيسة وخضوع الإمبراطور الجديد لسلطتها التي أضفت الشرعية على حكمه.
واتسمت فترة العصور الوسطى بظهور التمايز الواضح بين مؤسسة الكنيسة التي يرأسها البابا والتي يختص سلطانها بالشؤون الروحية والدينية ومؤسسة الدولة أو الإمبراطورية التي تشمل صلاحياتها تنظيم شؤون المجتمع الزمانية والإجتماعية والاقتصادية. وظهر في هذه الفترة أيضاً الصراع بين هاتين المؤسستين بسبب تغول إحداهما على صلاحيات الأخرى وذلك عندما أحتج البابا جريجوري السابع في القرن الحادي عشر على تدخل سلطة الإمبراطور الدنيوية في تعيين الأساقفة في المناصب الشاغرة. وكان البابا جريجوري السابع يعتقد بعلو سلطاته على كل الحكام الدنيويين لمسئوليته لحكم كل العالم المسيحي.18 فقام بعزل الامبراطور هنري الرابع وطرده من رحمة الكنيسة مما اضطر الأخير إلى زيارته في كانوسا طلباً للمغفرة والصلح. وبدأ الإمبراطور في استعادته لنفوذه بعد فترة قصيرة ليقوم بعدها بعزل البابا من منصبه بعد أن احتلت قواته مدينة روما في عام 1084م.
كان من نتائج الصراع بين الكنيسة (الدين) والدولة في العصور الوسطى بداية ظهور مفهوم الدولة العلمانية بمعنى الدنيوية أو الزمنية والذي انعكس في كتاب مارسيليو اوف بادوا "حامي السلام" Defensor Pacis الذي صدر في عام 1324م. وكانت اطروحة الكتاب الأساسية أن طموح البابا الذي دفعه إلى التدخل في الشؤون الدنيوية قد أدى إلى غياب السلام ونشوب الفتن الأمر الذي يستلزم استعادة الدولة لسلطاتها الدنيوية (العلمانية) وحصر صلاحيات البابا والقساوسة في الشؤون الروحية والدينية للمجتمع.19 وأشار مارسيليو إلى استقلال حقوق المواطنين عن الدين الذي يعتنقونه "ولا يمكن عقاب أي شخص بسبب الدين الذي يعتنقه.20
اختلفت تجربة الحضارة الإسلامية في قضية العلاقة بين الدين والدولة عن تجربة أوروبا في العصور الوسطى التي اتسمت بالتمييز الواضح بين صلاحيات مؤسسة الكنيسة فب المجال الديني والسلطة العلمانيّة الدنيوية للحكام. فابتدع المسلمون بعد وفاة الرسول  مؤسسة الخلافة لحماية الإسلام وحفظ أحكامه وقيمه الروحية وذلك بانتخاب أبي بكر الصديق لتولي قيادة دولتهم الناشئة . لذلك ارتبطت الدولة منذ نشأتها بالدين وتمّ اعتبار الشريعة مصدر السلطة وشرعية الخليفة والذي كانت ضمن أهمّ وظائفه حماية أحكام الشريعة الإلهية.21
يتضح مما سبق صلة المعنى العام للعلمانية بالسلطة السياسية التي تسعى عبر إطار مؤسسة الدولة إلى تنظيم شؤون المجتمع الدنيوية. وكان هناك اندماجٌ تامٌ بين الدين والدولة في الحضارات القديمة التي ظهرت في مصر وبابل واليونان وروما. وبدأت الكنيسة المسيحية في اكتساب شخصيتها المستقلة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية مما نتج عنه ظهور التوتر والنزاع بينها وبين سلطة الحكام الدنيوية في أوروبا في العصور الوسطى والابتعاد التدريجي بين مؤسستي الكنيسة والدولة والتي ستتحول في بعض المجتمعات في فترة لاحقة إلى الفصل بينها. واتسمت طبيعة العلاقة بين الدين والدولة في الحضارة الإسلاميّة بالاندماج بينهما كما كان الحال في الحضارات اليونانية والرومانية. واستبعدت طبيعة الإسلام وجود طبقة خاصة برجال الدين (كهنة) وغياب مؤسسة خاصة بهم مثل الكنيسة في أوروبا المسيحية مما استلزم دمج السلطتين الدنيوية (العلمانية) والدينية في مؤسسة الخلافة. ويمكن اعتبار العقلانية الإنسانية التي تسعى إلى ايجاد الحلول لمشكلات الإنسان الدنيوية واحدة من المعاني المتعددة لمصطلح العلمانيّة. ويجب الإشارة إلى أن المنهج العقلاني قد كان من أبرز سمات الحضارة الإسلاميّة وينعكس في اعتماد الفقهاء على العقل والرأي لاستنباط الأحكام من الوقائع الجديدة التي لم يرد لها ذكر في القرآن والسنة.
من كتاب اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري
دار جامعة الخرطوم للنشر 2007
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
 M.Sandel, ,Democracy Discontent: America in search of Public Philosophy (Harvard university press, 1998) p.18
J.Keane “The Limits of Secularism" in T.Esposito and A.Tammimi eds. Islam ans secularism in
Owen Chadwick, the Secularisation of the European Mind in the 19th Century (Cambridge, 1975) 3
P.Berger, “Secularism in Retreat" in J.Esposito and A.Tammimi eds., Islam and Secularism in the 4
Middle East (New York, 2000) p.39.
J.Locke, a Letter Concerning Toleration. in focus eds. John Horton and Susan Mendus (London 1991) 5
P. 17
Peter V.Jones, The World of Athens (Cambridge 2001) p.116 6
1 bid. P.117 7
C.Orrieux and P.Partel, History of Ancient Greece (Oxford , 1999 ) p.31 8
Cited in K.Popper, The Open Society and Its Enemies, (New York, 1962) p. 189 9
W.K.Guthrie, History of the Greek Philosophy, vol.4 (Cambridge, 1973) 10
E.Zeller, Outlines of the History of the Greek Philosophy (New York, 1980)
Thucydides, Pelopensian Wars, II, 37-41........ 11
K.Popper, Conjectures and Refutations (New York, 1965) p.16. 12
1 bid. 13
1 bid p.187 14
1 bid p.9 15
16ذكر البرايتور فاليريوس ميسالا فى خطاب أرسله إلى مدينة تيوس الآسيوية في عام 193 ق.م. بأن الرومان ينسبون نجاحهم المذهل.
في تأسيس الامبراطورية في فترة وجيزة إلى تدينهم وإيمانهم العميق بالآلهة . انظر
Andrew Linott, The Constitution of The Roman Republic (Oxford 2003) p.182.
17نفس المصدر. ظهرت نذر شؤم في السماء والمياه أثناء المعركة تراسيمانى التي قادها القنصل فلاميناس في عام 217 ق.م.
وعندما قدم القنصل الثاني سيرفيلوس تقريراً بذلك إلى مجلس الشيوخ في روما أصدر المجلس مرسوماً بذبح حيوانات كقرابين خاصة وأداء الصلوات لمدة ثلاثة أيام في كل معابد الآلهة. وتمّ عقد وليمة كبرى للآلهة في روما. نفس المصدر
S.Painter, A.History of the Middle Ages (New York, 1964) p.133 18
Lynn Thorndike, The History of Medieval Europe (Cambridge, MA, 1956) P.565 19
Leo Pfeffer, Church State and Freedom (Boston, 1953) p. 18 20
21الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع...ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين. قال الله عزّ وجلّ "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" أبو الحسن الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ( الكويت 1989م) صفحة 3.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.