(المنطقة باسيادها)    تسيد السعودية للإقليم خلال العقد القادم    ساهرون يكسب التحرير الكريبة بدوري مدني    ألمانيا تحزم حقائبها لكأس العالم    أحمد في الواجهة... وبداية قوية لمنافسات المصارعة الحرة    انعقاد الجمعية العمومية لنادي الهلال الأبيض وسط أجواء مثالية    بوساطة من موسى هلال..الجيش يطلق سراح 43 من عناصر الميليشيا    حديث ترامب الذي قال انه سيفعل شيئاً بخصوص الأزمة في السودان    السعودية وتركيا ومصر؛ لا مناص امامهم من العمل على حماية سيادة السودان    استئناف حركة المرور في معبر الرقيبات بين دارفور وجنوب السودان    البحر يبتلع عشرات السودانيين الهاربين من جحيم بلادهم    7 منها عربية.. المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم    السودان يتعادل أمام منتخب عمان الأولمبي بمسقط    الطيب صالح ناهض استعلاء السلطة عبر "الكتابة السوداء"    إنهم يكذبون على انفسهم فقط    بعد انتشار أنباء عن استشهاد قائدها "كيكل" بكردفان.. قوات درع السودان تصدر بيان توضح فيه الحقائق كاملة    شاهد بالفيديو.. بعد أن أقاموا له سرادق عزاء.. شاب سوداني يفاجئ أسرته بأنه على قيد الحياة بعد ظهوره في مكالمة فيديو وأحد أقاربه يطالبه بالعودة سريعا: (تعال الصباح بدري عشان تلحق فطور فراشك)    حقق حلمه وكان دائماً ما يردد: "لسه يا قلبى العنيد لا شقيت لابقيت سعيد".. شاهد ماذا قالت مفوضية اللاجئين عن ظهور الشاب السوداني "مهدي" وهو يغني مع الفنان الشهير تامر حسني داخل أحد المصانع بالقاهرة    شاهد بالصورة والفيديو.. "خواجة" يوثق لتجربته الأولى مع شرب القهوة السودانية.. عبر عن قوتها ويصف الجنزبيل بالشطة "سبايسي"    دونالد ترامب يفجّرها حول حرب السودان    قرار لسكان الخرطوم بشأن فاتورة المياه    جعبوب يحرز برونزية الوثب العالي بدورة التضامن الإسلامي    هل ثمة نظام دولي بديل يتشكل فعلا؟ّ!    خبير عسكري يطلق التحذير من خطر محدق جديد في السودان    السودان يعلن وصول شحنة من هولندا    فوز قاتل ضد الإمارات يقود العراق إلى الملحق العالمي بتصفيات المونديال    فريق ميداني متخصص من إدارة مباحث ولاية كسلا يسدد بلاغ خاص بسرقة عربة بوكس    الذكاء الاصطناعى وإرضاء الزبون!    قناة الجزيرة ... من يختار الضيوف ولماذا … ؟    بالصورة.. صحيفة "الغارديان" البريطانية تهاجم القيادي بمليشيا الدعم السريع "الربيع عبد المنعم" وتؤكد حذف حساباته على منصات التواصل الاجتماعي    إسرائيل تكشف رسميا عن خطتها على حدود مصر    خالد عمر: تصريحات وزير الخارجية الأمريكي لا تتعارض مع "الرباعية"    شبح شفاف.. مفترق بين الترقب والتأمل    روسيا.. سجن إماراتي 6 سنوات بتهمة محاولة تهريب صقور مهددة بالانقراض    الأولى منذ 7 سنوات.. محمد بن سليمان إلى واشنطن    شاهد.. "القروش بتخلي البني آدم سمح".. جمهور مواقع التواصل بالسودان يواصل سخريته من المذيعة تسابيح خاطر بنشر صور قديمة لها قبل ظهورها في الإعلام    شاهد بالفيديو.. الفنان المصري سعد الصغير يثير غضب السودانيين أثناء ترحيبه بالفنانة "مونيكا": (أنا أعرف أن السوداني لازم يبقى أسود أو أسمر لكن من السودان وبيضاء أزاي مش عارف!!)    الطاهر ساتي يكتب: مناخ الجرائم ..!!    إظلام جديد في السودان    تحذير من استخدام الآلات في حفر آبار السايفون ومزوالة نشاط كمائن الطوب    والي الخرطوم يعلن عن تمديد فترة تخفيض رسوم ترخيص المركبات ورخص القيادة بنسبة 50٪ لمدة أسبوع كامل بالمجمع    اتحاد أصحاب العمل يقترح إنشاء صندوق لتحريك عجلة الاقتصاد    الطاهر ساتي يكتب: أو للتواطؤ ..!!    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الدولة العلمانية (1 من 3) .. بقلم: د. امين حامد زين العابدين
نشر في سودانيل يوم 16 - 12 - 2011


amin zainelabdin [[email protected]]
"لا أعارض كمسلم أي شيء يمارسه البوذيون وأصحاب الملل الأخرى حسبما تقتضيه أديانهم... ولكن تبني الدولة للبوذية كدين رسمي سيؤدي إلى تصور البوذيين بأن لهم دوراً خاصاً في الحياة الإداريّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والتربوية لبورما... كما سيقود تبني ديانة رسميّة للدولة إلى فتح الباب للمتطرفين وازدياد مطالبهم استناداً على الدين... وعلمنا بأن الدستور المقترح سينص على أن يكون رئيس الجمهورية والوزراء ورئيس القضاء وقائد الجيش من البوذيين الأمر الذي ستقاومه الأقليات الدينية." رشيد، زعيم المسلمين فى بورما.
Cited in D. Smith, ed, Religion, Politics and Social change in the Third World (New York, 1971) pp.26-27.
كان من أهمّ أهداف الحركة الشعبية لتحرير السودان عند ظهورها فى عام 1983م تأسيس دولة علمانيّة يعترف دستورها بمبدأ فصل الدين عن الدولة باعتباره الإطار الأمثل لإعادة صياغة السودان الموحد على أسس جديدة لأجل تحقيق الاشتراكية والعدالة والوحدة الوطنية. ولم تطرح الحركة الشعبية في أدبها السياسي شرحاً لمفهوم الدولة العلمانيّة يتجاوز الخطاب الهتافي الذي يطالب بفصل الدين عن الدولة. فهل يشير مبدأ فصل الدين عن الدولة أيضاً إلى فصل الأحكام الأخلاقية عن العملية السياسية والقانونية؟ وهل يؤكدون الاستقلال الشخصي للذات وحرية الفرد للاختيار بغض النظر عن الواجبات الأخلاقيّة للمجتمع؟ وهل يتفقون مع الرأي العلماني المتطرف الذي يعتقد بضرورة "وضع معتقداتنا الأخلاقيّة والدينيّة بين قوسين عندما نتناقش فى أمور السياسة والقانون." والذى يترتب عليه منع إصدار أي تشريع يستند على حجة دينية؟ ويعزى التفسير الضيق والمحدود لمفهوم العلمانيّة الذي طرحته الحركة الشعبية إلى اعتبارها له ككتلة واحدة صماء Monolithic وتناوله من منظور أحادي مما أدى إلى اختزاله في معنى وحيد وهو فصل الدين عن الدولة. ويفسر هذا السبب أيضاً رفض الجبهة الإسلاميّة لمفهوم الدولة العلمانية بحجة عدائها للدين واستبعادها له عن الحياة العامة والمجتمع.
وسنتناول في الجزء الأول من هذا الفصل تطور مفهوم العلاقة بين الدين والدولة عبر التاريخ حيث يتضح من خلاله وجود عدة معاني لمصطلح العلمانيّة واعتراف الدولة العلمانيّة بدور الدين فى الحياة العامة ومواءمته في شؤون الدولة. ويعالج الجزء الثاني طبيعة وخصائص الدولة العلمانيّة الحديثة ويناقش بعد ذلك الأصول التاريخية للدولة العلمانيّة الديمقراطية التي توائم بين الدين والدولة كما يمثلها النموذج البريطاني. كما نناقش في هذا الجزء النموذج الأمريكي للدولة العلمانيّة والظروف التاريخية التي أدت إلى تأكيده على مبدأ فصل الدين عن الدولة. ونختتم الفصل بنبذة موجزة عن الدولة العلمانيّة الاستبداديّة فى العصر الحديث.
العلمانية وتطور مفهوم العلاقة بين الدين والدولة عبر التاريخ
يشتق مصطلح العلمانيّة من الكلمة اللاتينية saeculum التي تعني العصر فصارت تفهم بمعنى حياة البشر الزمانيّة فى هذا العالم. وكان تعريف د. جونسون في قاموسه لمعنى العلمانيّة بأنها الاهتمام بالأشياء التي تخص الحياة الراهنة. وينعكس هذا المعنى في الترجمة العربية للمصطلح، إذ يقول د. زكي نجيب محمود: (سواء كان المتحدث مهاجماً أم مدافعاً فكلاهما ينطق اللفظة المكسورة العين وكأنها منسوبة إلى العلم مع أن حقيقتها هي العين مفتوحة نسبة إلى هذا العالم الذي نقضي فيه حياتنا الدنيا...)2 واستخدم المصطلح فى العصور الوسطى كصفة للتمييز بين المجال الديني والمجال المدني، كما استخدم للإشارة إلى الأشخاص المدنيين العاديين لتمييزهم عن رجال الدين مثل القساوسة والرهبان. وبعد ظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السادس عشر واحتدام النزاع بين الكاثوليكيّة والمذهب البروتستانتي الجديد، بدأ استخدام مصطلح العلمنة Secularization للإشارة إلى مصادرة السلطات المدنية لممتلكات الكنيسة وتحويل المؤسسات الكنسية إلى هيئات مدنية تديرها وتشرف عليها الدولة.3 وطرأ تغيير على مفهوم العلمنة بهذا المعنى الأخير بعد التطور التكنولوجي الذى شهدته أوروبا بعد الثورة الصناعية لتعنى التحديث ونظرية العلمنة التي ترى "بأن التحديث يقود بالضرورة التي تقهقر الدين في المجتمع وفي أذهان الأفراد."4
ويتضمن المعنى العام للعلمانيّة فكرة تحديد العلاقة في المجتمعات الحديثة بين مؤسستي الدين والدولة التي وصفها الفيلسوف جون لوك بقوله: "اعتقد أنه من الضروري بمكان التمييز بدقة بين الحكومة المدنية والدين لكي تتم تسوية الحدود العادلة التي تقع بينهما."5 وتعرض مفهوم العلاقة بين الدين والدولة في المراحل المختلفة لتطوره عبر التاريخ إلى عدة تغييرات تراوحت بين الدمج أو المواءمة أو الفصل بينهما. وكان الدين هو الإطار الشامل للحضارات القديمة وداعي وجودها، فارتبطت عبادة الملك أو الفرعون المقدس في الممالك المصرية القديمة وعبادة تموز وعشتار في ممالك سومر وأكاد بالحماية التي توفرها لمدن هذه الحضارات. وكان سكان الحضارة اليونانية القديمة يعتقدون بأن الآلهة ترعى وتحمي معظم الوظائف الدينية والمدنية وأن الآلهة زيوس وأثينا وهيرميز يشرفون على معظم نشاطات المسئولين في مكان التجمع السياسي الرئيسي للمواطنين الذي يناقشون فيه شؤون الدولة والمعروف بالأغورا Agora.6 وتمّ تأسيس معابد في الأغورا للآلهة زيوس، أبولو وأثينا.7 وينعكس الدمج والتداخل بين الدين والدولة في المدن اليونانيّة القديمة في المكانة الهامة للطقوس الدينية في الحروب واعتقاد المواطنين بأن الآلهة قد ساعدتهم في تحقيق النصر والتعبير عن شكرهم للآلهة في معابدهم مثل تعليق الدروع في حائط المعبد أو نصب تمثال جديد للآلهة في معبده.8
أدى التعايش بين الدين والدولة في المجتمعات اليونانيّة القديمة وافتقارهم لكتاب مقدس إلى ظهور النظرة العلميّة والإيمان بقدرة العقل البشري لفهم مشكلات الكون والوجود الإنساني وحلها. لذلك نجد أن الدين هو أحد المكونات الأساسيّة للعقلانية الإنسانية في الفكر اليوناني القديم. فاعتبر اناكسيمان الوجود الإنساني بأنه "عمل ظالم غير تقي واغتصاب خاطيء يستوجب معاناة الأفراد والتكفير عن ذنوبهم."9 واتسمت عقلانية سقراط بالتدين العميق كما انعكست في آرائه التي تحث البشر على" الاهتمام بأرواحهم" وأزلية الروح كما أوضحها أفلاطون في الجمهورية وفايدو.10 وأفرزت العقلانية اليونانية قيّم الديمقراطية والتسامح والتي صارت من أهمّ سمات المجتمعات المعاصرة. فوصف بركليس الديمقراطية في القرن الخامس قبل الميلاد بقوله: "تكفل قوانيننا المساواة في العدل لكل الأشخاص عند النظر في خصوماتهم الشخصية... ولا نتجاهل ما يستحقه التميز، فالشخص المتفوق يمنح الأفضلية فى الخدمة العامة ليس كامتياز ولكن كمكافأة لجهده... ولا ينظر للنقاش كعقبة في طريق الممارسة السياسيّة وإنما شرط ضروري للتصرف بحكمة... كما نعتقد أن السعادة هي ثمرة للحرية."11
وتمّ استلهام مفهوم التسامح من مقولة سقراط "اعرف نفسك واعترف كم هو قليل ما تعرفه." فذكر الفيلسوف كارل بوبر أن هذه المقولة تتضمن مفهوم تعرض الإنسان للخطأ "التي جعلها نيكولاسي القوصي وايرازمس ومونتاني ولوك وفولتير وجون ستيوارت مل وبرتراند رسل أساساً لمذهب التسامح."12 وكان تعريف فولتير للتسامح في قاموسه "أنه النتيجة الضرورية لإنسانيتنا فنحن عرضه للوقوع في الخطأ فدعنا نغفر لكل شخص خطأه."13 وتأثرت الثورة العلميّة الحديثة التي انعكست في نظرية كوبرنكس بفكرة الخير الدينيّة لأفلاطون والذي احتلت فيها الشمس المكان الأعلى في السلسلة العظمى للصيرورة. وأشار كارل بوبر إلى ذلك بقوله: "كان من الصعب تصور أن تدور الشمس حول الأرض بعد أن منحت المكانة الأولى وتمّ وضعها في مصاف الآلهة في ترتيب الأشياء المحسوسة. لذلك فإن مركز الكون هو أنسب مكان لنجم له هذه المكانة السامية."14 وأوضح كارل بوبر أثر النظرية الأفلاطونيّة للمصدر الإلهي للمعرفة Anamnesis في نظرية المعرفة لدى بيكون وديكارت التي تستند على "المذهب الذي يقول أنّ حدسنا الفكري لا يخدعنا لأنّ الله هو الحقيقة ولا يخدعنا."15
وكان الدين جزءاً لا ينفصم من الدولة والحياة العامة في الإمبراطورية الرومانية التى ورثت التراث الفكري اليوناني.16 وكان الحكام الذين ينتخبهم الشعب الروماني يقومون بأداء أهمّ الطقوس الدينيّة ويقوم الكهنة بأداء النصح للحكام في احتفالات أداء القسم والقرابين والصلاة.17 واستمر مفهوم الدمج بين الدين والدولة في الإمبراطورية الرومانية بعد أن تخلت عن الوثنية واعتناق الإمبراطور قسطنطين الدين المسيحي في القرن الرابع الميلادي. وبانهيار الإمبراطورية الرومانية في غرب أوروبا عندما عزلت القبائل الجرمانية الإمبراطور رومولوس فى عام 476م وتنصيبها لقائدهم أودواكر ملكاً لإيطاليا، بدأت أوروبا في الإنقسام تدريجياً إلى عدة دويلات لتبدأ الحقبة المعروفة في تاريخ أوروبا بالعصور المظلمة. واستغل البابا فترة الفوضى التي عمّت أوروبا لتنظيم الكنيسة كمؤسسة مستقلة عن الدولة استناداً على التراث الإداري للإمبراطورية الرومانية ولنشر المسيحية وسط القبائل الجرمانية. وعندما نجح شارلمان في مشروعه لإحياء الإمبراطورية الرومانية قام البابا ليو الثالث بعقد مراسم تتويجه كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة في ديسمبر 800م الأمر الذي يعكس نمو نفوذ الكنيسة وخضوع الإمبراطور الجديد لسلطتها التي أضفت الشرعية على حكمه.
واتسمت فترة العصور الوسطى بظهور التمايز الواضح بين مؤسسة الكنيسة التي يرأسها البابا والتي يختص سلطانها بالشؤون الروحية والدينية ومؤسسة الدولة أو الإمبراطورية التي تشمل صلاحياتها تنظيم شؤون المجتمع الزمانية والإجتماعية والاقتصادية. وظهر في هذه الفترة أيضاً الصراع بين هاتين المؤسستين بسبب تغول إحداهما على صلاحيات الأخرى وذلك عندما أحتج البابا جريجوري السابع في القرن الحادي عشر على تدخل سلطة الإمبراطور الدنيوية في تعيين الأساقفة في المناصب الشاغرة. وكان البابا جريجوري السابع يعتقد بعلو سلطاته على كل الحكام الدنيويين لمسئوليته لحكم كل العالم المسيحي.18 فقام بعزل الامبراطور هنري الرابع وطرده من رحمة الكنيسة مما اضطر الأخير إلى زيارته في كانوسا طلباً للمغفرة والصلح. وبدأ الإمبراطور في استعادته لنفوذه بعد فترة قصيرة ليقوم بعدها بعزل البابا من منصبه بعد أن احتلت قواته مدينة روما في عام 1084م.
كان من نتائج الصراع بين الكنيسة (الدين) والدولة في العصور الوسطى بداية ظهور مفهوم الدولة العلمانية بمعنى الدنيوية أو الزمنية والذي انعكس في كتاب مارسيليو اوف بادوا "حامي السلام" Defensor Pacis الذي صدر في عام 1324م. وكانت اطروحة الكتاب الأساسية أن طموح البابا الذي دفعه إلى التدخل في الشؤون الدنيوية قد أدى إلى غياب السلام ونشوب الفتن الأمر الذي يستلزم استعادة الدولة لسلطاتها الدنيوية (العلمانية) وحصر صلاحيات البابا والقساوسة في الشؤون الروحية والدينية للمجتمع.19 وأشار مارسيليو إلى استقلال حقوق المواطنين عن الدين الذي يعتنقونه "ولا يمكن عقاب أي شخص بسبب الدين الذي يعتنقه.20
اختلفت تجربة الحضارة الإسلامية في قضية العلاقة بين الدين والدولة عن تجربة أوروبا في العصور الوسطى التي اتسمت بالتمييز الواضح بين صلاحيات مؤسسة الكنيسة فب المجال الديني والسلطة العلمانيّة الدنيوية للحكام. فابتدع المسلمون بعد وفاة الرسول  مؤسسة الخلافة لحماية الإسلام وحفظ أحكامه وقيمه الروحية وذلك بانتخاب أبي بكر الصديق لتولي قيادة دولتهم الناشئة . لذلك ارتبطت الدولة منذ نشأتها بالدين وتمّ اعتبار الشريعة مصدر السلطة وشرعية الخليفة والذي كانت ضمن أهمّ وظائفه حماية أحكام الشريعة الإلهية.21
يتضح مما سبق صلة المعنى العام للعلمانية بالسلطة السياسية التي تسعى عبر إطار مؤسسة الدولة إلى تنظيم شؤون المجتمع الدنيوية. وكان هناك اندماجٌ تامٌ بين الدين والدولة في الحضارات القديمة التي ظهرت في مصر وبابل واليونان وروما. وبدأت الكنيسة المسيحية في اكتساب شخصيتها المستقلة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية مما نتج عنه ظهور التوتر والنزاع بينها وبين سلطة الحكام الدنيوية في أوروبا في العصور الوسطى والابتعاد التدريجي بين مؤسستي الكنيسة والدولة والتي ستتحول في بعض المجتمعات في فترة لاحقة إلى الفصل بينها. واتسمت طبيعة العلاقة بين الدين والدولة في الحضارة الإسلاميّة بالاندماج بينهما كما كان الحال في الحضارات اليونانية والرومانية. واستبعدت طبيعة الإسلام وجود طبقة خاصة برجال الدين (كهنة) وغياب مؤسسة خاصة بهم مثل الكنيسة في أوروبا المسيحية مما استلزم دمج السلطتين الدنيوية (العلمانية) والدينية في مؤسسة الخلافة. ويمكن اعتبار العقلانية الإنسانية التي تسعى إلى ايجاد الحلول لمشكلات الإنسان الدنيوية واحدة من المعاني المتعددة لمصطلح العلمانيّة. ويجب الإشارة إلى أن المنهج العقلاني قد كان من أبرز سمات الحضارة الإسلاميّة وينعكس في اعتماد الفقهاء على العقل والرأي لاستنباط الأحكام من الوقائع الجديدة التي لم يرد لها ذكر في القرآن والسنة.
من كتاب اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري
دار جامعة الخرطوم للنشر 2007
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
 M.Sandel, ,Democracy Discontent: America in search of Public Philosophy (Harvard university press, 1998) p.18
J.Keane “The Limits of Secularism" in T.Esposito and A.Tammimi eds. Islam ans secularism in
Owen Chadwick, the Secularisation of the European Mind in the 19th Century (Cambridge, 1975) 3
P.Berger, “Secularism in Retreat" in J.Esposito and A.Tammimi eds., Islam and Secularism in the 4
Middle East (New York, 2000) p.39.
J.Locke, a Letter Concerning Toleration. in focus eds. John Horton and Susan Mendus (London 1991) 5
P. 17
Peter V.Jones, The World of Athens (Cambridge 2001) p.116 6
1 bid. P.117 7
C.Orrieux and P.Partel, History of Ancient Greece (Oxford , 1999 ) p.31 8
Cited in K.Popper, The Open Society and Its Enemies, (New York, 1962) p. 189 9
W.K.Guthrie, History of the Greek Philosophy, vol.4 (Cambridge, 1973) 10
E.Zeller, Outlines of the History of the Greek Philosophy (New York, 1980)
Thucydides, Pelopensian Wars, II, 37-41........ 11
K.Popper, Conjectures and Refutations (New York, 1965) p.16. 12
1 bid. 13
1 bid p.187 14
1 bid p.9 15
16ذكر البرايتور فاليريوس ميسالا فى خطاب أرسله إلى مدينة تيوس الآسيوية في عام 193 ق.م. بأن الرومان ينسبون نجاحهم المذهل.
في تأسيس الامبراطورية في فترة وجيزة إلى تدينهم وإيمانهم العميق بالآلهة . انظر
Andrew Linott, The Constitution of The Roman Republic (Oxford 2003) p.182.
17نفس المصدر. ظهرت نذر شؤم في السماء والمياه أثناء المعركة تراسيمانى التي قادها القنصل فلاميناس في عام 217 ق.م.
وعندما قدم القنصل الثاني سيرفيلوس تقريراً بذلك إلى مجلس الشيوخ في روما أصدر المجلس مرسوماً بذبح حيوانات كقرابين خاصة وأداء الصلوات لمدة ثلاثة أيام في كل معابد الآلهة. وتمّ عقد وليمة كبرى للآلهة في روما. نفس المصدر
S.Painter, A.History of the Middle Ages (New York, 1964) p.133 18
Lynn Thorndike, The History of Medieval Europe (Cambridge, MA, 1956) P.565 19
Leo Pfeffer, Church State and Freedom (Boston, 1953) p. 18 20
21الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع...ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين. قال الله عزّ وجلّ "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" أبو الحسن الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ( الكويت 1989م) صفحة 3.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.