وثيقة سلام دارفور التي اعتمدها المؤتمر الموسع لأصحاب المصلحة بدارفور، بمشاركة الوساطة القطرية التي رعت المؤتمر نهاية مايو المنصرم بغرض تقريب وجهات النظر حول القضايا الخلافية بين الحكومة والحركات المسلحة، شكلت نقطة تواصل مهمة بين الحكومة والحركات الرافضة لمنبر الدوحة التفاوضي الذي بدأ قبل عامين في البحث عن حلول سياسية تحقق السلام والاستقرار في دارفور التي تشهد حرباً أهلية منذ عام 2003، فالوثيقة التي أجيزت بالإجماع من قبل المؤتمرين لازالت معلقة حيث لم تحظ بتوقيع أي من الأطراف المتنازعة، فيما يتحدث المسؤولون الحكوميون بأن التوقيع على الوثيقة سيتم خلال أسبوعين وأن الحركات المسلحة ستمنح مهلة ثلاثة أشهر للتوقيع، في حين لازالت رؤية الحركات المسلحة حول الوثيقة غير واضحة، الأمر الذي يضع الوثيقة بين مطبات متعددة حول مسيرة تحقيق السلام في إقليم دارفور المضطرب. التقرير التالي يتناول فرص وثيقة سلام دارفور في إنهاء الحرب بالإقليم.. الدور القطري: مؤتمر أهل المصلحة حول دارفور كان أحدث المحاولات القطرية التي بذلت لتحقيق السلام في ولايات دارفور التي يعيش سكانها أوضاعاً استثنائية منذ عام 2003، فالدور القطري الذي ينطلق من مباديء الاخوة والسلام لتحقيق السلام في دارفور ظل على الدوام يبحث عن الحلول الشاملة لازمة دارفور داخلياً وخارجياً بعد الصعوبات التي واجهت اتفاقية أبوجا التي وقعت في دولة نيجيريا عام 2005 بعد بضعة أشهر من توقيع اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الدكتور جون قرنق التي أفضت إلى ميلاد دولة الجنوب الحديثة. فاتفاقية أبوجا التي وقع عليها فصيل مني أركو مناوي المنشق عن حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور ثم لحقت بها حركات أخرى صغيرة لم يتحقق السلام في دارفور بتوقيعها رغم الأموال الطائلة التي صرفتها الحكومة على الحركات الموقعة التي يتكدس أتباعها حالياً بولاية الخرطوم فيما لازالت المعارك تدور في الإقليم من وقت لآخر دون ظهور أي وجود على الميدان للحركات الموقعة التي أصبحت عاجزة عن حماية مواقعها التي كانت تسيطر عليها قبل اتفاقية أبوجا. تعاظم الدور القطري في سلام دارفور وحظى برعاية أمير قطر بصورة شخصية كما أن إسناد الوساطة القطرية لوزير الدولة للشؤون الخارجية القطرية يؤكد عزم دولة قطر على طي ملف الحرب في دارفور بصورة شاملة، ولذلك دولة قطر خلال فترة وجيزة رعت مؤتمر شامل لأهل دارفور ضم الإدارات الأهلية وسكان المدن والنازحين بغرض إدارة نقاش فعال يمهد لإيجاد حلول عملية لازمة إقليم دارفور، بالإضافة إلى الاحتفاظ بخيوط التواصل مع الحركات المسلحة التي بدأ بها منبر الدوحة لمعالجة قضية دارفور، ثم قاطعت الحركات المنبر لأسباب خاصة بها، ولكنها حالياً بعد اعتماد وثيقة سلام دارفور الجديدة أصبحت بصورة غير مباشرة شريكاً في التفاوض بعد أن تركت الوساطة القطرية مساحة التوقيع على الوثيقة مفتوحة للراغبين في التوصل لحلول نهائية للأزمة التي شغلت العالم منذ اندلاعها في عام 2003 الحركات المسلحة: المؤتمر الموسع لأصحاب المصلحة حول دارفور أقر بالإجماع وثيقة سلام دارفور كأساس لتحقيق السلام الشامل، بحضور وفد الحكومة السودانية للمفاوضات وحركتي التحرير والعدالة والعدل والمساواة والمجتمع المدني والنازحين واللاجئين والرحل والأحزاب السودانية، فيما تفيد المعلومات بأن هناك اتصالات لإطلاع حركتي مناوي وعبد الواحد على مضمون الوثيقة، بينما حركة العدل والمساواة التي قاطعت منبرالدوحة رأت أن الوثيقة الحالية تشكل أساساً للتفاوض مما يعني أن الوثيقة لبت مطالب الحركة التي تسعى لتحقيقها من خلال التفاوض.. فيما حظيت الوثيقة بمبادرة اللجنة العربية الأفريقية المعنية بدارفور ووساطة سلام دارفور والمبعوثين الخاصين للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي بينما وضعت الوساطة القطرية خطة متكاملة لتنفيذ بنود الوثيقة التي سيفتح باب التوقيع عليها في وقت لاحق تحت إشراف دولة قطر والمبعوثين الخاصين لسلام دارفور، فالوثيقة في حالة قبول الحركات المسلحة بها تصبح قاعدة مهمة لتحقيق السلام في الإقليم الذي انطلقت المفاوضات حوله منذ بداية الأزمة. بدأ الصراع في دارفور بصورة تقليدية بين الرعاة والمزارعين حيث تحدث مناوشات في فترات مختلفة ولكنها تحل ودياً في الغالب عن طريق «الأجاويد» وسطاء الصلح القبلي الذين في الغالب يتكونون من زعماء الإدارات الأهلية ووجهاء القبائل في المنطقة المعنية، ولكن بعد حل الرئيس الراحل جعفر نميري للإدارة الأهلية في السودان عند بداية حكمه تراجع دور «الأجاويد» بصورة كبير،ة الأمر الذي عقد النزاعات المحلية في دارفور بصورة كبيرة حيث تقطن إقليم دارفور أكثر من مائة وستين قبيلة تختلف في العادات والتقاليد والأعراف واللهجات رغم أن «99%» من سكان إقليم دارفور مسلمين بالفطرة و«50%» منهم يحفظون القرآن الكريم بصورة كاملة، حيث يلقن للأطفال في سن مبكرة عبر خلاوي تحفيظ القرآن المنتشرة حتى وسط البدو الرحل ولذلك حتى وقت قريب كان كثير من مواطني إقليم دارفور يتنازلون عن حقوقهم عندما يتعلق الأمر بأداء اليمين على المصحف حتى لو كانوا على حق لأن المصحف عندهم مقدس. إقليم دارفور الذي يتكون من ثلاث ولايات يضم أيضاً ثلاثة مناخات مختلفة كالمناخ شبه الصحراوي الذي يوجد في شمال الإقليم ومناخ شبه البحر الأبيض المتوسط الذي يوجد فقط في السودان بمنطقة جبل مرة السياحية التي تقع على ارتفاع عشرة ألف قدم فوق سطح البحر وفي الجنوب والجنوب الغربي للإقليم مناخ السافنا، فالمساحة الواسعة للإقليم والمناخات المتعددة جعلته قبلة لكل أهل السودان الراغبين في الزراعة والرعي والتجارة، ولذلك أصبح الإقليم يضم ربع سكان السودان وفق إحصائيات التعداد السكاني حيث يضم الريف الزراعي «75%» من السكان فيما «15%» من السكان رعاة و«10%» من سكان المدن، ولكن الحرب التي اندلعت في الإقليم قلبت الموازين وأصبح معظم سكان الريف يعيشون في معسكرات شبيهة بالمدن العشوائية فيما تراجع الإنتاج الزراعي بصورة كبير،ة وكادت مساحات الغابات أن تتلاشى نتيجة أعمال القطع الجائر فالحرب تسببت في مشكلة بيئية شاملة بالإقليم ربما تكون لها تأثيرات أكبر مستقبلاً. تكلفة الحرب المالية: يقدر خبراء المؤسسات المالية تكلفة الحرب المادية في الفترة ما بين 2003 وحتى 2009 باثنين وثلاثين مليار دولار ناهيك عن الخسائر في الأرواح فمقارنة تكلفة الحرب المالية بتعداد السكان ومساحة الإقليم البالغة خمسمائة وعشرة ألف وثماني مئة وثمانية وثمانين كيلو متراً مربعاً من المفترض أن يصبح الإقليم من أغنى المناطق حول العالم في حال صرف هذه المبالغ على التنمية والاستثمارات والبنية التحتية فيما النزاع المسلح الذي بدأ في الإقليم بدعوى التهميش وعدم عدالة توزيع السلطة والثروة أعاد سكان الإقليم إلى الحياة البدائية التي كانت سائدة قبل ظهور نظام الدولة الحديثة التي قامت على مفهوم نظرية العقد الذي يمنح الدولة حق جمع الموارد المالية من المواطنين في مقابل تقديم خدمات لهم فيما مفهوم التهميش ينطبق على الذين لا يحظون بالخدمات، ولذلك شهد عام 1965 ظهور أول منظمة عسكرية سرية في دارفور بدعوى القتال ضد تهميش المركز لسكان الإقليم الذي يساهم بنسبة كبيرة في الدخل القومي بينما لا يحظى قاطنوه بخدمات تناسب الإيرادات المحصلة. وظهر النشاط المسلح للحركات في دارفور عبر منشورات سياسية وزعت تحت مسمى حركة جيش تحرير السودان في التاسع من يوليو عام 2002 كامتداد لفكرة المنظمة العسكرية السرية التي تلاشت لعدم تجاوب السكان معها في السابق، فحركة جيش تحرير السودان كانت أهدافها في بداية الأمر محلية اعتمدت على تردي الخدمات وتهميش الحكومة المركزية للإقليم، ولكن في فبراير 2003 أصبحت الحرب واقعاً عندما شنت حركتا العدل والمساواة وجيش تحرير السودان هجوماً على مطار الفاشر فيما أعقبت الهجوم حملة إعلامية منظمة قدمت القضية للرأي العام العالمي بصورة فيها كثير من المبالغات، حيث بثت صور عن حالات إنسانية ربما لم تكن واقعية، فخلال الفترة ما بين 2004 و2005 التي شهدت قمة الاهتمام الإعلامي بأزمة دارفور تم إحصاء سبعة عشر مليون مادة خبرية عن دارفور خلال عشرة أشهر بوسائل الإعلام العالمية من ثلاث وكالات فقط هي رويترز ووكالة الأنباء الفرنسية والاسشويس برس الأمريكية، الأمر الذي جعل الأزمة تتحول بسرعة من محلية إلى الاهتمام الدولي. حرب صفوية: يقول البروفيسور عوض السيد السعيد الكرسني أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم: المفاوضات التي تدورحالياً حول تحقيق السلام في دارفور ستكون غير جادة ما لم تحسم قضية الإقليم الواحد التي تشكل جوهر الموضوع مع الالتزام بعدم تفتيت أجزاء الإقليم إلى أجسام إدارية صغيرة تصل إلى مستوى العشيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تآكل النسيج الاجتماعي، حيث يصبح ذلك أخطر من الحرب التي تدور حالياً بالإقليم، فهناك صراع صفوة حول الحكم من قبل أبناء الإقليم، وإذا لم تتدارك الدولة ذلك سيتحول الأمر إلى صراع شامل على مستوى السودان.. ولذلك لابد من اعتماد نظام رئاسي بناء على دستور 1998، بالإضافة إلى هيئة مستشارين لرئيس الجمهورية تتكون من حكام الأقاليم أو اختيار نواب لرئيس الجمهورية ممثلين للأقاليم وفق سلطات دستورية محددة بحيث يكونون مسؤولين أمام رئيس الجمهورية، بحيث توكل إليهم شؤون الإقليم، كما يجب مراجعة التركيبة الإدارية للولايات والمحليات بصورة شاملة من ناحية المساحة وعدد السكان والسلطات والاختصاصات المالية لتكوين نظام حكم يضمن في الدستور لا يمكن تعديله إلا باستفتاء شعبي عام.. وإذا حدث ذلك فإن أزمة دارفور سوف تحل في إطار الحلول المتكاملة لنظام الحكم في السودان.