انتخابات اللجان الشعبية التي أسدل عليها الستار، ثم فتح مجدداً لأداء القسم أمام والي الخرطوم أتت بنفس الشخوص والوجوه القديمة، إلا من رحم ربي، بحسب التقارير الأخبارية، ومنها تقرير الأستاذة هبة عبد العظيم بالزميلة «السوداني»، وليس في ذلك غرابة أو مدعاة للفت النظر، لأنه لو حدث العكس وانتهت تلك الانتخابات إلى غير النتيجة التي انتهت إليها فإن ذلك سيكون هو الجديد أو «الخبر»، ولكن مع ذلك فإن الحدث لم يخل من «خبر»، ومن «جديد ما كان على بال».. الجديد الطازج هو إعلان والي الخرطوم د. عبد الرحمن الخضر عن «منح الحصانة» لأعضاء اللجان الشعبية ضد مساءلة الشرطة أو إلقاء القبض أو جلب أحدهم إلا بعد أخذ الإذن من معتمد المحلية، ياسلام.!!. وبما أن «اللجان الشعبية» هي أولاً وأخيراً «صناعة إنقاذية» مائة في المائة، وبما أنها كما يرى المحللون والمراقبون - بحسب تقرير هبة- تأتي ضمن «سياسة الهيمنة»، بحيث تكون الأذرع القوية والمنتشرة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وأداة من أدوات التعبئة السياسية، كما صرح بعض القادة والمعتمدين من خلال توجيهاتهم ولقاءاتهم مع بعض الكوادر، وكما شهدنا عياناً بياناً الدور الذي كانت تطلع به خلال انتخابات أبريل 2010م، فإن إضفاء الحصانة عليها يعني تمكينها من رقاب الناس ونسف أي فكرة للمساواة بين المواطنين أمام القانون حتى على مستوى الحي الواحد أو الحارة الواحدة، وتلك قضية في حد ذاتها. فلأول عهد اللجان الشعبية عندما بدأ تنفيذ الفكرة مع مطالع الإنقاذ، اندفع إلى هذه اللجان والتحق بعضويتها الكثير من «أولاد الحلة» من الشباب العاطلين عن العمل، في مختلف المدن والأحياء، وكانت فرصة بالنسبة لبعضهم أتتهم من السماء.. «فرصة عمل» طال انتظارها و«فرصة وجاهة» سياسة أو اجتماعية لم تخطر على بالهم أبداً، ومع ذلك كان من بينهم كوادر سياسية تنتمي إلى الحزب المنقلب على النظام الدستوري القائم، رأووا في تلك اللجان سانحة مهمة لتأمين الانقلاب والنظام الجديد ضد كل غوائل الرفض أو الاحتجاج، فعملوا على ترسيخ تلك «اللجان الشعبية» التي من بين أولوياتها أن تصبح «عيوناً شعبية» ترفد أجهزة الأمن بالمعلومات، بالإضافة إلى الخدمات العادية للمواطنين التي تقوم بها خدمة لتمرير أجندة النظام الجديد. وبالفعل نجحت تلك اللجان نجاحاً باهراً في القيام بكل تلك المهام، حتى ترسخ النظام وتطاول عمره، وتحولت هي إلى صلة الوصل بين المواطنين والأجهزة الحكومية في المحليات والمحافظات، التي أصبحت ولايات فيما بعد، لكنها كانت تفعل كل ذلك باعتبارها أجهزة شعبية، لا تتمتع بأي حصانة وتخضع لما يخضع له المواطن في إطار القانون والدستور. قبل يوم من ذلك التقرير الوافي للزميلة هبة - الأربعاء 8 يونيو- حول أداء القسم للجان الشعبية المنتخبة في حضرة الوالي الذي كافأهم ب «الحصانة»، طالعت مقالاً للأستاذ الطاهر ساتي بنفس الصحيفة حمل عنوان «ولكن عدالة الأرض لا تصد عدالة السماء» قارن فيه بين ما يحدث في الولاياتالمتحدة وما يحدث في بلادنا، متخذاً من محاكمة المواطن السوداني سائق بن لادن الذي قدمته وزارة الدفاع الأمريكية إلى محاكمة عسكرية بوصفه «مجرم حرب» مثالاً، لكن محاميه رفع دعوى ضد وزير الدفاع الأمريكي حينها رونالد رامسفيلد، فانتصرت المحكمة لحمدان ضد رامسفيلد «بجلالة قدره» في المنظومة التنفيذية والدستورية لأقوى وأغنى بلد في العالم، وبينما في بلادنا، استند الطاهر إلى قصة النائب البرلماني المتهرب من دفع إيجار عربة «الليموزين» الذي استغلها لمدة نصف عام، ما اضطر صاحب الشركة المعنية للجوء للبرلمان من أجل استخلاص حقوقه البالغة «170» مليون جنيه، تحت ذريعة أنه «دستوري» ويتمتع بالتالي بالحصانة، التي تردع الشرطة أو النيابة عن جلبه للتحقيق إذا لم يرفع البرلمان عنه الحصانة، وقرّع الطاهر البرلمان لانشغاله بقضية «نائب الليموزين» والضجيج الذي أثاره حولها بينما أمامه قضايا وطنية أكثر أهمية وأشد خطراً، واستنكر تستر المسؤولين خلف تشريعات الحصانة للتهرب من المحاسبة ومواجهة العدالة، التي تصيبها الحصانات في مقتل، بحيث إذا «سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقامو عليه الحد» بحسب الهدى النبوي، أو «إذا أخطأ المواطن حاكموه، وإذا أخطأ الوزير حصنوه» كما يقول الطاهر. ولكن - أخي الطاهر- إذا جاز لنا أن نفهم أو «نبلع ونهضم» إضفاء الحصانة عل الدستوريين ، باعتباره تقليد معمول به في الكثير من الدول، خصوصاً في عالمنا الثالث، حيث الحصانة متراس لعرقلة العدالة وتسويف الحقوق، وتلك في حد ذاتها مصيبة، إلا أن المصيبة الأعظم والطامة الكبرى تتمثل في تمديد «مظلة الحصانة» هذه لتشمل حتى «أولاد الحلة» الناشطين في «اللجان الشعبية»، وأن يكون شرط خضوعهم لإجراءات الشرطة أو تحقيقات النيابة رهين بموافقه «السيد المعتمد» الذي «يعتمد» في تسيير أموره على دور هذه اللجان التي هي أذرعه الممتدة إلى كل حي وحارة و «زنقة»، والمعتمد كما اللجان الشعبية وحكومة الولاية ومجلسها التشريعي ينهلون من ذات المورد وينتمون لذات الحزب، مما يجعل كل محاولة لرفع الحصانة عن عضو لجنة شعبية أمراً عسيراً إلا في حالة «التلبس» كما أشار السيد الوالي، فتلك هي حالة «تماهي» أو مزج كامل بين الحزب الحاكم والأجهزة التنفيذية والتشريعية وحتى الشعبية. وبعد دا كله تقول لي عاوز «مناخاً عدلياً نقياً» وداير تشوف «الناس سواسية أمام القانون» يا أستاذ الطاهر؟!