كنت من المحظوظين القلائل الذين سعدوا بسماع تجربة الفاضل سعيد المسرحية، وذلك من خلال ندوة أقيمت بمناسبة اليوم العالمي للمسرح والذي كان تحت شعار (المسرح السوداني دعماً لحوار الثقافات والتنمية). والفاضل سعيد من مواليد مدينة أم درمان حي بيت المال، ولد وترعرع بحي السور والذي يعتقد بأنه المنبت الخصيب والذي لو ولد فيه أي إنسان آخر لصار الفاضل سعيد. كان لتربية الفاضل سعيد في أسرة فقيرة وسط أربع حبوبات ووالد دنقلاوي لا يعرف العربية ووالدته ابنة عم لأبيه لا تعرف النوبية، كبير الأثر في تكوين شخصيته الفنية منذ بداياته الأولى. التحق الأستاذ الفاضل سعيد بخلوة الحوري ومنها مباشرة إلى مدرسة الهداية للشيخ الطاهر الشبلي والتي كانت آنذاك بمكان منزل شيخ الطاهر الشبلي حالياً بجوار منزل الأميرلاي عبد الله بك خليل، وكان لتلك المدرسة الأثر الكبير في بداياته المبكرة، حيث التقى هناك بأبي الفنون الرائع المبدع الأستاذ خالد أبو الروس والذي كان يدرسهم مادة الحساب، وكان شهيراً بالمنلوجات والنكات، فكان معجباً به أيما إعجاب لدرجة جعلته يتابعه ليراه يمثل في كل مكان، فكان يذهب خلسة لرؤية الأستاذ خالد أبو الروس بنادي الزهرة ووجد في فنه من روائع الفكاهة والنكتة المروية والمنلوج الذي نقله من مصر، ملاذاً له.. فأحبه وتأثر به.. وكون الأستاذ الفاضل سعيد مع أقرانه بالحي أول فرقة له بالمدرسة، وهنا كانت بداية نشأة مسرح الملايات وهو مسرح مكون من القنا والملاءات القديمة، ومضاء بالرتاين ولمبة الشبك، وهنا ولدت أيضاً تجربة الإنتاج الأولى وهي عبارة عن تعريفة الفطور لشراء معينات العمل في مسرح الملايات، =وهنا فاجأه أستاذه خالد أبو الروس يوماً بأن قام بضربه بسبب التمثيل، فانفعل فيه يومها وقال له لماذا تضربني وأنا أحبك وأقلدك؟.. فقال له الدراسة أولاً ثم التمثيل ثانياً. وحبا الله سبحانه وتعالى الأستاذ الفاضل سعيد بموهبة التأليف والتمثيل والإرتجال، الشيء الذي جعله يشتهر سريعاً بود نوباوي لدرجة أن السيد المرحوم عبدالله الفاضل المهدي كان يدعوهم كفرقه تمثيلية حينما يكون في معيته بعض الضيوف والوجهاء، وبذا فاقت شهرته أنحاء مدينة أم درمان، ثم أتت مرحلة دار ذكرى التي بها مناشط شباب الأنصار، وهنا واجهته أول مشكلة أن منعته والدته التمثيل وكان السبب وراء ذلك أنه مثل دور بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع الحجر على صدره وتم ضربه بالسياط، وشاهدت والدته تلك المسرحية وبقلب الأم الحنون الشفوقة على ابنها منعته من التمثيل ودفعت به إلى مدرسة الأقباط، وبما أن والدته كانت تعمل في صناعة الطواقي وهو من كان يقوم ببيعها لها في السوق أثناء الإجازات المدرسية، الشيء الذي جعله يلتقي في محطات حياته بمبدع آخر هو الأستاذ محمود سراج (أبو قبورة)، والذي كان يعمل في بيع اللحم، ثم تم نقله من مدرسة الأقباط المصرية إلى مدرسة فاروق المصرية في العام 1953م، وهناك وجد أروع مفاجأة تنتظره، حيث التقى بالأستاذ المبدع أمين الهنيدي والأستاذ أبو لمعة المصري، وكانت تلك المدرسة هي التي علمت مجتمع الخرطوم رؤية مسرح حديث، والمسرح الحقيقي عرفه هناك من العم ريحاني ومثل هامليت وكان كثيراً ما يقوم بتقليد نجيب الريحاني. دفعت به الغيرة من المصريين لتكوين فرقة الشباب للتمثيل الكوميدي في العام 1955م، وكان وقتها بالصف الثاني الثانوي، وحتى يمثل كان لابد له من تسجيل تلك الفرقة بالمجلس البلدي، فأكمل إجراءات تسجيلها وتم الإعلان عن فرقة الفاضل سعيد المسرحية في يناير 1956م. وهنا أصبح الهم الأكبر بالنسبة له أن المسرح مسؤولية كبيرة، فذهب إلى حاجة كاشف بدري وأقنعها بضرورة مشاركة المرأة في الأوبريتات، وهنا ظهرت شخصية بت قضيم لأول مرة في العام 1956م.. وتمثيله لشخصية بت قضيم جاء وليد الصدفة، ولذلك قصة.. حيث التقى أستاذنا الفاضل سعيد بالأستاذ محمد حسين خليل بازرعة بأم درمان الذي طلب منه عمل تمثيلية فكاهية لركن المرأة، وقام على الفور بعمل تمثيلية واسمها تربية، والتمثيلية تقوم على ثلاثة أفراد شخصية بت قضيم والفاتح سعيد وكان بالإذاعة ثلاث بنات وقتها، بأسماء مستعارة.. عطيات زلفو باسم تماضر.. ومنيرة عبد الماجد وأيضاً لها اسم مستعار.. والثالثة زوجة الأستاذ ياسين معني والتي كانت تؤدي دور حاجة فاطمة بركن المرأة، وتم اختيار ثلاثتهن وفشلن تماماً في أداء الدور، وكان يراقبهن محمد صالح فهمي والخانجي حينما كان يلقنهن الدور، ففاجأ الفاضل سعيد بأن قال له أنت بت قضيم، ومن هنا بدأت انطلاقة بت قضيم والفكاهة والضحك في السودان. ست سنوات مضت على رحيل الفاضل سعيد باءت بعدها كل المحاولات لإضحاك الشعب السوداني بالفشل، وكأنما الضحك نفسه قد دفن معه وكأنما حواء السودان قد عقمت عن أن تخرج لنا ممثلاً في قامته يسعدنا ويحكي واقعنا بكل مراراته، ألا رحم الله الفاضل سعيد وأسكنه فسيح جناته.