قلنا بالأمس إنّ المجلس الأعلى للنهضة الزراعية، الذي يرأسه نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه، قد قدّم في جلسة مجلس الوزراء، التي دُعينا لحضورها، تقريرين الأول عن «النتائج المتحققة من الأهداف الإستراتيجية» عن الفترة من 2008 إلى 2010، والذي صدر في يونيو من العام الماضي، أما التقرير الثاني والأحدث والمعنون «حصاد الأداء لبرنامج النهضة الزراعية» فهو يغطي ذات الفترة لكنه صدر في مايو 2011 وجاء التقرير الثاني - بعد عام تقريباً- في 84 صفحة، ولم أدر الحكمة التي جعلت الأمانة العامة للنهضة الزراعية تقدم تقريرين في جلسة واحدة لمجلس الوزراء، ولم يكن قطعاً من الممكن الإلمام إلماماً دقيقاً بكل محتوياتها برغم الاستعراض الموجز الذي قدمه الأمين العام للنهضة المهندس عبد الجبار حسين وخبير الاقتصاد الزراعي د. عباس وبرغم وجود معينات إليكترونية من «بروجيكتور» وشاشات كمبيوتر، فالوقت كان أضيق من الوقوف على هذه التفاصيل التي تناسب «ورشة عمل» تستمر أياماً وجلسات متتابعة ومخصصة لدراسة كل محور من محاور ما احتواه التقريران، تمهيداً لاتّخاذ قرارات محددة تعرض من ثم على مجلس الوزراء بشكل ملخص ومركز وواضح المعالم لاتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ بشأنها. وهذا ما يجعلنا نقتصر في استعراضنا على التقرير الثاني «حصاد الأداء لبرنامج النهضة الزراعية» الصادر في مايو 2011، وأهم المحاور التي وردت فيه مع إبداء الملاحظات على النقاط اللافتة في ما جاء بالتقرير. ولكن قبل ذلك، لابد من القول إن تخصيص برامج «للنفرة» أو النهضة الزراعية، في وجود وزارة مختصة هي وزارة الزراعة والغابات، التي عمرها هو من عمر استقلال السودان، يحمل في حد ذاته مؤشرات وإيحاءات قوية بأن «الزراعة في أزمة» وأنها تحتاج لعناية خاصة من خلال الاستنفار أو «النفير» أو لاستنهاض الهمم و«النهوض». وهي مؤشرات وإيحاءات إيجابية، تؤكد اعتراف الدولة بحالة التردي التي بلغها أهم مكون من مكونات الاقتصاد السوداني -المتمثل في الزراعة والثروة الحيوانية ومشتقاتها- ولكنها في الوقت ذاته تخلق «مؤسسة تنفيذية» موازية للمؤسسة التنفيذية القائمة والمختصة، وهي وزارة الزراعة الاتحادية ورديفاتها الولائية، وهو وضع قد يترتب عليه نوع من تضارب الاختصاصات والارتباكات، أو يحدث قدراً من الترهل الإداري المعرقل للأهداف المطلوبة من الاستنفار والنهوض بالزراعة. وكان يمكن اختصار كل ذلك في تكليف نائب رئيس الجمهورية بمتابعة تنفيذ برنامج محدد المعالم والأهداف من خلال المراقبة اللصيقة لأداء وزارة الزراعة الاتحادية والوزارات الولائية والجهات ذات الصلة، بعد إقراره من جانب مجلس الوزراء كما حدث في 23 مارس 2008، دون اللجوء لتكوين مجلس أعلى للنهضة الزراعية كجسم مواز للوزارة والوزارات المختصة، وبذلك نكون قد وفرنا، على الأقل، موازنة هذا المجلس ومنصرفاته ووجهناها لدعم الوزارة المعنية والاحتياجات الملحة للزراعة. والآن، دعونا نعرض بعض أهم ملامح تقرير حصاد الأداء لبرنامج النهضة الزراعية، ففي مقدمته يقول التقرير حول «دواعي التأسيس» إن البرنامج التنفيذي للنهضة الزراعية تأسس تصويباً إستراتيجياً للدولة، بغية الاستغلال الأمثل لإمكانات البلاد الزراعية الكبيرة والمتنوعة وتطويعها لتحقيق الرفاهية لأهله، واستهدف البرنامج «تجنب الاعتماد على البترول في الاقتصاد بجعل التنمية الزراعية والصناعية المصاحبة، القطاع الرائد» الذي يقود قاطرته برفع وتعزيز القدرات التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية. وهنا لابد من وقفة، فمع الاتّفاق الكامل مع الهدف النبيل. بجعل التنمية الزراعية والصناعية المصاحبة لها القطاع الرائد للاقتصاد السوداني، وتجنب الاعتماد على البترول كمورد رئيس للاقتصاد، فكان الأجدر بمن صاغوا هذا «الهدف النبيل» أن يقولوا بضرورة تسخير الموارد المالية التي يوفرها البترول لدعم الزراعة باعتبارها القطاع الرائد حتى تنهض وتتقدم قاطرة الاقتصاد السوداني. لأنّه ببساطة فإن من معوقات الزراعة الرئيسية في البلاد عدم وفرة التمويل، وذلك بتخصيص أكبر قدر من موارد الدولة من البترول والعملات الصعبة لدعم الزراعة والثروة الحيوانية، باعتبارها ركيزة التنمية الرئيسية، ولتعظيم عائدات البترول ذاته عبر تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية التي أصبحت في ذات الفترة هي الأغلى والأندر في الأسواق العالمية، خصوصاً عندما نأخذ في الاعتبار الميزات التفضيلية للمحاصيل واللحوم السودانية «العضوية» مقارنة بما هو مطروح في الأسواق العالمية من منتجات معدلة جينياً يخشى المستهلكون في أسواق الغرب من آثارها على صحتهم، ولا يمانعون في دفع أسعار مضاعفة للحصول على الأغذية المنتجة عضوياً بوسائل طبيعية. فقد كان يرجى من تسخير أموال البترول على هذا النحو أن يزيد هذه العائدات أضعافاً مضاعفة، بما يترتب عليه التأسيس لتنمية مستدامة وبالتالي صعوداً مستمراً لمؤشرات النمو الاقتصادي والاستقرار والرفاه الاجتماعي. فالأهداف الإستراتيجية للبرنامج، كما سبقت الإشارة، هي أهداف نبيلة لا خلاف عليها، وكان يمكن تحقيقها إذا ما اعتمدنا معادلة «البترول للزراعة»، وهي كما يحددها «برنامج النهضة» تتمثل في: تنمية الصادرات الزراعية النباتية والحيوانية بما يدرأ انهيار الاقتصاد الكلي جراء «الاختلال الناجم عن الاعتماد المتنامي على عائدات البترول»، وهذا اعتراف جميل لكنه لم يلحق بقرارات إستراتيجية لتجنب «هذا الاعتماد» الذي تمثل في توجيه هذه العائدات الى بنود صرف أقل أهمية وحيوية، كالصرف على جهاز الدولة المترهل والعقارات وحتى الأمن والدفاع، اللذين على أهميتهما، كان الصرف على الزراعة وتعظيم الثروة وتوزيعها العادل يمكن أن يحد من الإلحاح الذي يجعل منهما ضرورة لا مناص من تسخير الموارد لها، بما يجلبه من استقرار سياسي وسلام اجتماعي. ومن بين الأهداف الإستراتيجية لبرنامج النهضة أيضاً زيادة الإنتاجية ورفع كفاءة الإنتاج والتصنيع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي، وتخفيف حدة الفقر بنسبة 50% بنهاية العام 2015، وتوفير فرص العمل وزيادة دخل الفرد، وتحقيق التنمية المتوازنة لكافة الإقاليم تشجيعاً للاستقرار في الريف، وتنمية وحماية الموارد الطبيعية بما يكفل استدامتها وتجدد عطائها. وجعل عوامل النجاح المفتاحية لكل ذلك تتمثل في تسعة عناصر هي: تهيئة السياسات الكلية للزراعة، والإصلاح المؤسسي والتشريعي، والبنيات التحتية من ري وحصاد مياه وطرق زراعية، مع رفع القدرات ومعالجة قضايا الأرض وتطوير الخدمات المساندة، وتحديث النظم الزراعية والتصنيع الزراعي وإعمال الجودة والسلامة الغذائية واعتماد الشراكات الإستراتيجية كنهج رئيسي في تحقيق أهداف النهضة. وهذه الأخيرة تنصب على الشراكة مع المؤسسات والجهات التمويلية العربية والأجنبية الراغبة في الاستفادة من موارد السودان الكبيرة في هذا المجال. في الحلقة القادمة من هذه «الإضاءة» نقف على مؤشرات وحصاد الأداء والنتائج المتحققة على الأرض حسب ما يوردها التقرير.. نواصل