قابلت السيد منتصر محمد البارحة في مكتب ليموزين، حيث يعمل حارساً، كان واجماً في الحقيقة مهدود الحيل، ساهماً يرعى غنم إبليس، سألته أمريض؟ فتنحنح وقال لي: أهلا وسهلاً ما في مشكلة الحمد لله. وبعد إلحاح عرفت.. ولندعه يتحدث بنفسه: ثلاثمائة وخمسون جنيهاً لا تكفي لتمويل حياتي وحياتي زوجتي وابنتي الصغيرة شهرياً. الآن ربما بلغت ثلاثاً وثلاثين، ولكنني منذ أن قدمت من (الشوك)، ومحاولاتي لاتني من أجل تحسين وضعي المعيشي، وحتى في الكلاكلة حيث أنا، فإن الإيجار غال والكهرباء خبيثة و.. و.. و..!! فكرت أن أجرب مهنة تناسب قدراتي، فلم أجد أقرب من (السواقة)، فإن السائقين هنا معنا في الليموزين يحصلون على (25) جنيهاً في اليوم، حينما يقودون العربات الخفيفة في مشاوير عبر الولايات، فإذا قلنا إنهم حظوا بعشرين يوماً كاملة في الشهر، فإن هذا سيعني (500) جنيه كاملة، عدا أكلي وشرابي، فعادة ما يسردب المستأجر ويتحمل كلفة ذلك لأني في ضيافته وخدمته. إنها فكرة جميلة ولا أظن السواقة ستغلبني، غير أن ما يغلب أمثالي هو القرش، الإخوان هنا لم يقصروا معي، أقرضوني جزءاً مما إفترضه وزير الداخلية على المساكين أمثالي، ممن لا يجدون فرص عمل أنسب من قيادة العربات لأصحابها... إستدنت ما يعادل مرتب شهرين حتى الآن دون أن تنتهي فرائض وزير الداخلية عليّ، ودون أن أحصل على الرخصة أيضاً، ناهيك عن تحسين المرتب، الذي تحسب له زوجتي الأيام والدقائق، فما بالك بنظرات الدائنين وقد أقرضوني ثمائماية جنيه، وهانذا أطلب المزيد لأرضي وزير الداخلية دون جدوى. لكي يسمح سيادته للمساكين بأن يعملوا سواقين فإنه يشترط هذا السيل من الدفع المقدم كاش: أولاً: رسوم بدء إجراءات فتح ملف استخراج رخصة بمبلغ (62) جنيهاً. ثانياً 60 جنيهاً رسوماً إضافية في الإطار نفسه، المتعلق ببدء الإجراء وعمل استمارة التمرين (ثلاثة ارباع الإيصالات ليست أورنيك 15) ثالثاً: يتم تحويل هذا الرجل (الأمي أو شبه الأمي) إلى جهة اسمها: الأكاديمية السودانية للطرق والمرور.. نعم إكاديمية يتلقى فيها هذا الرجل البسيط محاضرات فخمة وعظيمة في مجال المنهاج العلمي الرفيع لسواقة العربات، وذلك من أجل تقليل الحوادث وزيادة الثقافة المرورية و.. و.. الشاهد أن وزارة الداخلية تفرض على السواق (230) جنيهاً نظير محاضرات رفيعة ينال بعدها شهادة أكاديمية محترمة في ثلاثة أيام!! نعم يتم التخريج بعد ليال ثلاث لا غير. هذا المواطن شبه الأمي، والذي انسدت أمامه القبل الأربع يتخرج بشهادة شرافة، وأختام وتوقيعات، وشعارات ممنياً نفسه بالشهادة الكبيرة، وهي الرخصة، طالما أن شهادة الأكاديمية هذه لن تطعمه عيشاً، وإنما تؤهله للإمتحان الحقيقي الذي خضع له جهابذة سائقي السودان دون غيره على مر الدهور والأجيال ولكن هيهات. وزير الداخلية يطلب منه أن يحصل على شهادة أخرى، بدونها لا مجال لامتحان رخصة السواقة، يطلب التدرب في مدرسة خاصة من مدارس تعليم قيادة السيارات المعتمدة (ترى من هم أصحاب هذه المدارس المعتمدة وهل هي مدارس مؤهلة فعلاً ونافعة ولا مفر منها؟).. المهم أن هذه المدارس لا تمنحك شهادة إلا إذا دفعت لها (150) جنيهاً في اسبوع، هي أقل مدة تدريب إذا شددت حيلك.. لا، في الحقيقة فإن هذه المائة وخمسون جنيهاً إنما هي رسوم تدريب عملي بعد التدريب النظري فقط، الذي تلقيناه في الأكاديمية السودانية إياها، وأما إذا طلبنا من مدرسة تعليم السواقة تلك الشهادة التي بدون إرفاقها لا فائدة من كل الذي عملناه، فإنه يتعين دفع رسوم استخراج شهادة قيمتها (70) جنيهاً إضافية.. صلينا على النبي؟. وزير الداخلية سيطلب منك بعد كل هذا الجري واللهاث، أن تستريح ثلاثة أشهر لا تنقص يوماً واحداً، وذلك من أجل أن تتمرن عملياً على السواقة بموجب استمارة التدريب المذكورة آنفاً. والعربة التي تتمرن بها، هل هي مستأجرة أم عربة أحد أقربائك أو غير ذلك، فهذا شأنك وسوف لن نذكر تكلفتها هنا.. ولكن بعد الأشهر الثلاثة ستخضع لثلاثة امتحانات معروفة هي: الخلف، والعلامات المرورية والطريق، كل امتحان من هذه المراحل الثلاث يتطلب رسوماً قيمتها (50) جنيهاً، فإذا فشلت في أي منها. وهذا وارد جداً، فإنه يتحتم عليك إعادة الكرة برسوم أقل.. وأما إذا يسر لك الله الأمر ونجحت فإن الايصال المالي سيكون جاهزاً باسمك الكامل ومختوماً بكلمة فقط.. (200) جنيه. هل وصلنا المليون جنيه يا أيها الباحث عن وظيفة (سواق)؟، وزير الداخلية هو الذي يسأل وليس أنا. فإذا قلت قرررربنا فإنه قد احتاط لذلك برسوم أخرى وضعت في صورة عقوبات مالية تفرض على كل سواق..(شبه أمي)، يتأخر عن محاضرة من محاضرات الأكاديمية السودانية لمدة عشر دقائق! علماً بأن للإكاديمية كتاباً ضخماً يحوي(144) صفحة من القطع الكبير ويتضمن منهج.. وأسس السواقة الصحيحة الآمنة، وعلى هذا الأخ الأمي أو شبه الأمي حفظ مافيه وإلا..!! وقد ورد ضمن شروط الأكاديمية أنه: سيتم فرض رسوم إضافية في حالة التأخر عن المحاضرات، ويعتبر المتدرب غائباً ولا يسمح له بالحضور والاستفادة. ترى هل توقف سيل الدفع والعذاب بمواجهة هؤلاء المعذبين في الأرض؟ كلا، فهنالك إحضار الصور ورسوم كشف النظر، ورسوم كشف فصيلة الدم، والكشف السريري والنفسي وكله بحقه ومستحقه. وأوعك ترجف وأنت تستلم الرخصة وتركب عربة الناس فرحان، فترد على مكالمة زوجتك المنتظرة على نار، وبدلاً عن أن تسألك هل استلمت الرخصة(الصغيرة) فإنها ستقفز فوراً نحو الموضوع الأهم وهو: ها خلاص ماهيتك (500).