من الصعب أن تكتب أو تتحدث عن جنوب أفريقيا وكفاحها من أجل القضاء على الميْز والفصل العنصري دون أن تتوقف عند نلسون مانديلا، المجسد الأعظم لانتصار «الإرادة الإنسانية»، وليس فقط الإرادة الشعبية للجنوب أفريقيين، فهو وارث المهاتما غاندي في النضال المدني المتسم بالشجاعة والإصرار على كسر الطغيان بوسائل المقاطعة والإضراب والعصيان المدني، دون أن ينسى في لحظة الانتصار حتى حق الآخر المعتدي في الحياة عبر آليات الحقيقة والمصالحة و«العدالة الانتقالية»، ليغدو النصر انتصاراً للإرادة الإنسانية المتعالية على الضغينة والرغبة في الانتقام والتشفي. لذلك خصص الكاتب السفير فيصل بن أحمد معلا فصلاً خاصاً في كتابه ل«المناضل.. نيلسون مانديلا»، بعد أن وثّق لمراحل الكفاح المختلفة والمتنوعة منذ إضراب عمال المناجم سنة 1946، وخلال الخمسينات التي شهدت موجات التظاهر المتعاقبة الرافضة لتشريعات الفصل العنصري (الأبارتيد) ومذبحة شاربفيل التي قتل فيها 18 وجرح نحو 180 من المتظاهرين في محافظة ترانسفال، والثورة الطلابية في سويتو -soweto- عام 1976، في أعقاب «حركة الوعي السوداء» التي قادها ستيف باكو ودفع حياته - اعتقالاً وقتلاً- مهراً لها.. نضال وضع سلطات الفصل العنصري في موقف الضعف لتبدأ خطوات التراجع في ضوء اختلال ميزان القوى، خصوصاً مع ارتفاع أسعار البترول في أعقاب حرب أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط وما صحبها من مقاطعة نفطية، وتضخم مالي عالمي قاد إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، دفع بعمال جنوب أفريقيا إلى خرق الحظر المفروض على الإضرابات، ونجحوا في الحصول على أجور أفضل. ترافق ذلك كله مع تصاعد موجات التحرر الأفريقي من حول جنوب أفريقيا مع نهاية حرب روديسيا وانهيار موزمبيق الاستعمارية وازدياد الحصار والمقاطعة الاقتصادية والعسكرية الدولية لجنوب أفريقيا، مع تورط قواتها في الحرب على حدود أنغولا وفي جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا حالياً). كما كان انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة إيذاناً باختفاء حدة الاستقطاب والتنافس بين الجبارين على أفريقيا، ما جعل الولاياتالمتحدة تتبنى ما عرف بسياسة «الالتزام البناء» الأكثر واقعية. كل ذلك، كما يقول المؤلف السفير المعلا، قاد الحكومة البيضاء إلى الاعتراف بأنه لا حل لأزمة البلاد بدون حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، الذي قام قادته في المنفى بتشكيل حكومتهم الخاصة، وإلى اتخاذ الرئيس الأبيض ديكليرك قراره التاريخي بإطلاق سراح زعيم حزب المؤتمر الوطني نيلسون مانديلا بعد 27 عاماً من السجن المتواصل، وإلى تعزيز الثقة في نهج المؤتمر الوطني المُثابر على مبدأ «الديمقراطية اللاعرقية»، ثقة مهدت لمحادثات مركز التجارة العالمي قرب جوهانسبيرج بين الأعوام 1991-1993، وصدور دستور مؤقت للبلاد، ومن إجراء أول انتخابات ديمقراطية في جنوب أفريقيا عام 1994، وإلى قيام أول حكومة وحدة وطنية موسعة بقيادة نيسلون مانديلا، حرصت كل الحرص على لم الشمل وتوثيق الروابط الوطنية، وتبنى البرلمان دستوراً جديداً للبلاد في عام 996ا. وعن مانديلا، يقول المؤلف، استناداً إلى سيرته الذاتية، إنه ولد في الثامن عشر من يوليو 1918 لزعيم قبيلة في منطقة «الكيب الشرقي»، وهو أخ لثلاثة عشر من الأولاد وتسع بنات، وإن اسمه الأصلي بالميلاد هو «رويهلالا» الذي يعني «الشخص جالب المتاعب لنفسه»، وهو أول من دخل المدرسة عند سن السابعة بين إخوته وأطلق عليه اسم «نيلسون» نسبة لصعوبة نطق الاسم الأصلي من قبل معلميه، وتوفي والده وعاش يتيماً منذ التاسعة من عمره. وبعد إكماله الثانوي التحق مانديلا بجامعة «فورت هير»، وهناك التقى بأولفر تامبو،أعز أصدقاء عمره، ثم انتقل إلى جوهانسبيرج، ليعمل ابتداءً حارساً بأحد المناجم، قبل ان ينتقل للعمل بمكتب للمحاماة بمساعدة صديقه «وولتر سيسلو»، ما مكنه من نيل الشهادة الجامعية بالمراسلة من جامعة جنوب أفريقيا (UNISA)، ومن ثم بدأ في دراسة القانون بجامعة «فيتس» بجوهانسبيرج، والتحق بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي عام 1942، وأصبح من أعضائه البارزين. وعقب انتصار «الحزب الوطني» الأبيض في انتخابات 1948 وبدء تطبيق سياسة الفصل العنصري، قاد مانديلا حملة مناهضة لتلك السياسة، وفي عام 1956 كان مانديلا بين 156 وُجهت لهم تهمة الخيانة العظمى، واستمرت محاكمته أكثر من أربعة أعوام قبل إسقاطها عنه في النهاية. لينخرط في المزيد من النشاط السياسي السري مع رفاقه، ينظمون المزيد من الإضرابات والتظاهرات، وبعد مذبحة شاربفيل تم حظر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي واختبأ مانديلا، واضطر الحزب ومانديلا إلى تغيير سياسة «الكفاح المدني» في مواجهة عنف السلطة البيضاء، ونظم مانديلا حملة واسعة ضد نظام الفصل العنصري واعتقل في نهاية الأمر واتهم بالتآمر للإطاحة بنظام الحكم، ودافع مانديلا عن نفسه أمام المحكمة بخطبة استمرت خمس ساعات، قال خلالها:«لقد تمسكت بمبدأ إقامة مجتمع ديمقراطي حر يعيش فيه الجميع في انسجام وبفرض متساوية، إنه مبدأ أتمنى أن أعيش من أجله وتحقيقه، وأنا على استعداد للموت من أجله إذا ما لزم الأمر ذلك»، وصدر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة ليمضي 27 عاماً في جزيرة «روبن» المعزولة في خليج تيبل قبالة ساحل كيب تاون، حتى صدر قرار الرئيس فردريك ديكليرك في عام 1990 برفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطني والإفراج عن مانديلا ورفاقه من أمثال والتر سيسلو وأحمد كاثرادا وأندروا مالينغين. المؤلف المُعلاَّ يقدم سيرة موجزة ومركزة للزعيم مانديلا، تضع بين يدي القارئ أهم المحطات والمطبات لكفاح ذلك المناضل الكبير، سيرة وقصة تصلح لأن تكون ضمن مناهج التربية والتعليم في بلداننا لأنها، كما سبقت الإشارة، قصة لانتصار «الإرادة الإنسانية» في أبهى معانيها. أما في فصول الكتاب الأخرى فقد اهتم الكاتب فيها بتعريف قارئه على التقسيمات الإدارية لجنوب أفريقيا، ونظام الحكم والأحزاب السياسية الناشطة في البلاد، والدستور الديمقراطي المتطور الكافل لجميع الحقوق والحريات، والذي من بين أهدافه رأب الصدع الذي خلفته سياسات الفصل العنصري، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والفصل بين السلطات. ثم ينتقل الكاتب بنا لإلقاء ضوء على النشاط الاقتصادي لجنوب أفريقيا، الذي يوصف بأنه «الأكثر تقدماً وازدهاراً في القارة» على حد قوله، وذلك لما تتمتع به البلاد من ثروات طبيعية هائلة ومتنوعة، وبيئة سياسية مستقرة نوعاً ما، إلا أنه يلاحظ أنها تعاني في الوقت ذاته إلى حد كبير من خلل وفوارق في توزيع الثروة. ويتركز النشاط الاقتصادي بصورة عامة على قطاعات التعدين والصناعة والزراعة والسياحة والتمويل والخدمات التجارية وقطاع الإنشاءات، التي تساهم كل منها بنسب متفاوتة في إجمالي الناتج الوطني. ولم ينس الكاتب الاهتمام بالحياة الثقافية والتعليمية في جنوب أفريقيا، في مجالات الآداب والمسرح والمهرجانات الثقافية والموسيقى وعادات الطعام، وقدم سجلاً بأهم الجامعات التقليدية والشاملة التي تمزج بين الدراسات النظرية والتطبيق، كما اهتم بالإعلام والصحافة، والحياة الدينية حيث يعتنق المسيحية نحو 79% من المواطنين، ويتوزع الآخرون على الإسلام والهندوسية واليهودية والديانات الأفريقية المحلية، وقدم موجزاً مهماً عن علاقة الإسلام بجنوب أفريقيا والدعاة الأوائل وانخراط المسلمين في الحياة السياسية للبلاد وتشكيل أحزاب خاصة بهم. ثم أفرد فصلاً، يتصل بعمله وهو العلاقات السعودية الجنوب أفريقية ومراحل هذه العلاقة والتطورات التي شهدتها، وهو الفصل المدعوم بالصور التي تسجل الزيارات واللقاءات الرسمية. واهتم المؤلف كذلك بالعلاقات العربية عموماً مع جنوب أفريقيا، وعلاقاتها السياسية والتجارية مع العالم، خصوصاً مع بلاد كالصين والبرازيل والهند. وختاماً نقول إن كتاب «ذات المحيطين» كتاب جدير بالقراءة، وثبتٌ لا غناء عنه لكل باحث في شؤون جنوب أفريقيا، وأتمنى أن يتمكن صاحبه من طباعة «نسخة شعبية» منه تكون أقل تكلفة وفي متناول جميع القراء العرب المهتمين. شكراً للسفير الأستاذ فيصل المعلاَّ، وليت كل رجالات السلك الدبلوماسي العرب، يفعلون مثله ويحولون بعثاتهم لفرص منتجة للمعرفة والتعريف بالشعوب والبلدان التي يعملون بها.