لم السودان الحالي عمره (41) سنة بالتمام والكمال، فقد تم اعتماد شكله الحالي في عهد الرئيس الأسبق الراحل جعفر محمد نميري في العشرين من مايو سنة 1970م. وقد كان العلم القديم منذ الاستقلال وحتى تاريخ تغييره المشار إليه، يتكون من ثلاثة خطوط عريضة أفقية، من ثلاثة ألوان فقط هي الأزرق والأصفر والأخضر. الألوان الحالية ووفقاً للتوصيف الرسمي لها، ترمز إلى عدة معاني، فالأحمر يرمز إلى دماء الشهداء، والأبيض إلى السلام والنقاء، والأسود يرمز للأجداد السابقين الأقوياء، أما الأخضر فيرمز إلى الخصب والنماء. سعدت جداً بنبأ قيام فتية آمنوا بحب الوطن بقيادة الشاب روحاً وحركة وهمة الفريق عبد القادر يوسف، بمبادرة شعبية ووطنية غير مسبوقة تهدف إلى تعظيم علم السودان وإعلاء شأن الوطن، والمبادرة تدعو كل السودانيين إلى رفع العلم يوم التاسع من يوليو بعد أن تسلم حكومة جنوب السودان الرئيس البشير علم السودان. نقول إنها لفتة بارعة ولمحة ذكية نؤيدها، لأن مضامينها تحمل رسائل عديدة مهمة ومطلوبة وضرورية في مثل هذا اليوم من تاريخ السودان تنفتح فيه صفحة جديدة يسجل فيها السودان (الأصل) وقائع وأحداث تاريخه القادم بأحرف من نور، وأول هذه الوقائع هو نبذه الحرب وسعيه إلى السلام. ثم توقيعه برضا تام على اتفاق نيفاشا رغم ما حفل به من بنود مجحفة وقاسية، وما عج به من ألغام وقنابل موقوتة كثيرة بعضها انفجر وبعضها تم تفكيكه والبعض الآخر وهو كثير، في الانتظار والترقب، ثم التزامه بتطبيق بنود الاتفاق بنداً بند، وسعيه الدؤوب على جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً، ثم وفاؤه بكل استحقاقات جنوب السودان وأكبرها استفتاء تقرير المصير والذي ما كان أكثر المتفائلين يظن أن يتم الوفاء به بسلاسة ويسر، ثم من بعد ذلك كله الاعتراف بنتيجته التي جاءت بما لا تشتهيه سفن السودان. ثم إمساكه لأبناء الجنوب في الخدمة المدنية والعسكرية بمعروف، ثم تسريحهم بإحسان شهدوا به هم وعبروا عنه بالكلمات المؤثرة والدموع الثخينة لمن لم يستطع منهم طولاً أن يعبر بلسانه، والعالم كله شاهد سلسلة احتفالات التكريم والوداع التي أقامتها الوزارات المختلفة لمنسوبيها من أبناء الجنوب في وفاء نادر وتسامح وتسامي فوق الإحن والمرارات أجزم أنه لا يوجد مثيل له في عالمنا هذا الذي نعيش فيه رغم أن المشهد على الضفة الأخرى عكس هذا، حيث الاضطهاد والإهانة الممنهجة والمنظمة لأبناء الشمال هناك، فلا حفلات تكريم ولا يحزنون، بل شتائم وإساءات ومعاملة لا إنسانية وغمط وهضم لحقوقهم وطردهم وتشييعهم باللعنات وكل إناء بما فيه ينضح. نقول بعد هذا الاستطراد إن مبادرة مجموعة الوفاء للوطن والتحية للعلم، تحمل في طياتها رسائل عدة، أهمها أنها تؤكد على أن يوم التاسع من يوليو ينبغي ألا يكون يوم حزن أبداً، بل يجب أن يكون يوم فرح على تمام الوفاء بالعهد والميثاق ومقابلة الإساءة بالإحسان، وهي قيم عظيمة وخلق رفيع، وهو فرح بالإنعتاق من القيود التي ظل السودان يرسف فيها لأكثر من خمسين عاماً وأقعدته من الانطلاق نحو التنمية والتقدم والعيش وفق قيمه الحضارية والدينية والثقافية الأصيلة. وأجمل ما دعت إليه المجموعة هو تكريم عدد من الرموز الوطنيين بلا ظلال من حساسيات بسبب الخلافات الفكرية والحزبية والسياسية، وهي خطوة ستبث الدفء في العلاقات مع هؤلاء الرموز وتزيل عنها الجمود وكتل الجليد التي تراكمت عليها لسنوات عديدة وبداية موفقة لابتدار مصالحة وطنية يظلّها هذا اليوم التاريخي فيلهمها وينفحها من بركاته ليكون آخر يوم في الشقاق بين القوى الوطنية وأول يوم للانطلاق نحو السودان (الجديد) بحق وحقيقة. لقد أهملنا علم السودان لفترة طويلة وحان الوقت لكي يعود الاهتمام به سيرته الأولى، وأذكر ويذكر من هم من جيلي والأجيال التي قبلنا، كيف كان الناس يحترمون العلم فتجده في المدارس يرفرف عالياً وهو نظيف غير مهلهل، وتجده في المصالح الحكومية وفي المحلات التجارية، بل في البيوت خاصة في أعياد الاستقلال والأعياد الوطنية، يرفعه الناس فوق (راس البيت) احتفاءً به واحتراماً لما يرمز له، وكنا ونحن صغار نتبارى في رسم علم السودان وتلوينه بألوانه التي كنا نحفظها عن ظهر قلب. ونوجه نداءً للقائمين على أمر مناهج التعليم أن يعيدوا مادة التربية الوطنية التي درسناها نحن في المرحلة الابتدائية في سبعينيات القرن الماضي، فما أحوج هذا الجيل والأجيال القادمة لهذه الجرعات المهمة التي لا تقل في أهميتها عن جرعات التحصين ضد أمراض الطفولة الخطرة وكل الأمم والشعوب المتحضرة تفعل ذلك. أرجو ألا يكون عمر هذه المبادرة يوماً واحداً، ولا أن يكون عملها استعراضياً واحتفالياً وموسمياً فقط، واقترح أن تكون هذه المجموعة نواة لإنشاء هيئة شعبية تعمل بصفة دائمة على الاهتمام بكل ما يقوي ويمتن الشعور والإحساس بحب الوطن، وتقوم بدعم الأنشطة والفعاليات التي تهدف إلى رفع الحس الوطني لدى كل السودانيين لا تفرق بين أحدٍ منهم بسبب اللون السياسي أو التنظيمي أو الجهوي، وأن تمثل في الهيئة كل ألوان الطيف بلا استثناء أو إقصاء، واقترح أن يكون يوم التاسع من يوليو من كل عام، يوماً لتكريم الوطن ممثلاً في العلم تبث فيه الأناشيد الحماسية الوطنية وتذكر فيه مناقب الوطن وملاحمه الوطنية ومآثره التاريخية، إحياءً لروح الوطنية وتجديداً لها حتى لا تصدأ.. وكل سنة وانتو طيبين.