اللحظات الأخيرة لانفصال الجنوب عن الشمال رسمياً لم تكن بالعادية أو السهلة على منسوبي قوات الشرطة من أبناء الولايات الجنوبية وغيرهم من أبناء الشمال.. وقد ترجمت الانفعالات والمشاعر التي صاحبتها على أن الانفصال تجاوز بكثير الحدود الجغرافية التي تم الاتفاق عليها.. وما تم هو فصل بين إخوة عملوا لسنوات طويلة في مجال واحد لحفظ الأمن ومكافحة الجريمة في كل أصقاع البلاد. هذا ما أكد حقيقته اللواء سمير خميس الذي عمل بالإدارة العامة للسجون والإصلاح، وتم تكريمه أمس الأول بقيادة شرطة الاحتياطي المركزي بجبل أولياء من قبل وزارة الداخلية ورئاسة قوات الشرطة كأقدم ضابط عمل في صفوفها لنحو «34» عاماً. قال خميس متحدثاً في الاحتفالية التي نظمتها رئاسة الشرطة لأبناء الولايات الجنوبية الذين عملوا في صفوفها قبل مغادرتهم الشمال، وقد سيطرت العبرات الحرى على صوته وهو يذرف الدموع: إن الفراق الذي قُدر لنا مرٌ، ولكن الفراق الأمر «أنت قاعد مع أخوك ويقولوا ليك أمشي»، وحمّل السياسة والسياسيين مسؤولية التفريق بين شعبي الجنوب والشمال واستدل في ذلك على ملاحظاته من خلال احتفاليات الوداع التي انتظمت الكثير من المؤسسات والدور الحكومية منذ الأسبوع الماضي لوداع أبناء الجنوب العاملين بها، حيث إنه لاحظ على حد قوله: إن أبناء الجنوب والشمال شعب واحد لمرارة الفراق الذي تجرعه الجميع لحظات الوداع». واصفاً الذي يحدث بأنه عبارة عن أن «جنا صغير بفتكر أنه بقى راجل كبير» في إشارة إلى الجنوب والشمال، مؤكداً في حديثه على أن الشمال هو الأب الكبير الذي سوف يحتفظون له بكل الود والتقدير، وتعهد خميس إنابة عن جميع منسوبي الشرطة من أبناء الجنوب المغادرين إلى ولاياته المختلفة بالدفاع عن الشمال في حال حدوث أي إشكاليات في المستقبل القريب أو البعيد. وقد أفرد المنظمون للاحتفالية عقب حديث اللواء سمير خميس مساحة لفرقة البالمبو للغناء، والتي ترنم أفرادها بإحدى الأغنيات لقبيلة الشلك وما كان من جميع الحضور والذين تجاوزت أعداهم المئات من المحتفى بهم وغيرهم أن قفزوا بصورة هسترية إلى المنصة يتمايلون طرباً مع الأنغام وسط زغاريد النساء التي تعالت ووسط حضور وزير الداخلية المهندس إبراهيم محمود حامد ومدير عام قوات الشرطة الفريق أول هاشم عثمان الحسين وجميع القيادات العليا للشرطة، وقد تعالت أصوات الجميع وأياديهم في ذات الأغنية، وأخرى كانت على أنغام الشمال.. غير أن الدموع كانت هي سيدة الموقف ولم يتمكن الكثيرون من حبسها وخاصة النساء من زوجات الضباط وضباط الصف والجنود من أبناء الجنوب عندما تراجعن إلى الجلوس في المقاعد التي خصصت لهن عقب توقف أنغام الفرقة الموسيقية. وقالت إحدى السيدات الجنوبيات فضلت عدم ذكر اسمها في حديثها ل«آخر لحظة» وقد أجهشت بالبكاء: سوف نظل جنوباً وشمالاً إخوة، ولن يفرقنا إلا الموت ولن يفرقنا الانفصال الذي تسبب في تنفيذه السياسيون، وأردفت «نحن دائماً وأبداً أخوان». واعتبر العقيد شرطة ميل شار والذي كان مديراً للسجن الاتحادي بالفاشر أن الشماليين والجنوبيين أبناء عمومة ولا يمكن للانفصال الذي تم أن يفرق بينهم على حد تعبيره، واستبعد أن يؤدي ما تم إلى أن ينسى أي من عمل في صفوف الشرطة السودانية السنوات الطويلة التي قضاها في الشمال والخبرات التي اكتسبت خلال تلك السنوات، وأوضح ل«آخر لحظة» أنه عمل «6» سنوات بالفاشر وعاد الأسبوع الماضي تنفيذاً لمقررات الانفصال، وقطع بأنه لا توجد دولة أقرب إلى الجنوب غير شمال السودان سواء من النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. ووصف الرقيب شرطة كرمه الأوبل التابع للمباحث والتحقيقات الجنائية لحظات الوداع ومغادرة صفوف الخدمة في الشرطة بالشمال بالصعبة، وقال: نحن تفرقنا من أخواننا الذين عملنا معهم في إدارات مختلفة لعدة سنوات ولكنه أعرب عن أمله في أن يواصل هو وغيره من أفراد الشرطة من أبناء الجنوب عملهم بذات الوتيرة على أن يستمر التواصل الاجتماعي وتبادل الخبرات بين الشرطة في البلدين. وأعلن المقدم حسين جانو عن تعهدهم كضباط شرطة كانوا بالشمال أن يكونوا خير معين للشرطة بالجنوب بعد تهنئته لشعبه بنيل استقلاله. وكان ل«آخر لحظة» لقاءاً آخر مع أحد أساتذة الموسيقى من أبناء الجنوب الملازم لويس لياي والذي عمل أولاً منذ العام 1967م بالقصر الجمهوري ومن ثم انتقل إلى وزارة الداخلية وقوات الاحتياطي المركزي كمدير لإدارة الموسيقى بقيادة الاحتياطي، وقال «نحن ما سياسيين وليس لنا بها علاقة ومثل ما قدمنا كضباط شرطة للشعب في الشمال سوف نقوم بذات المهام في الجنوب، وأضاف العمل الشرطي ليس فيه اختلاف بالنسبة لنا سوى في الجنوب أو الشمال، وأرجع ذلك إلى أنه عمل مرتبط بتنفيذ القوانين ولا علاقة له بالسياسة أو الأهواء الشخصية. وحمَّل خميس كوزو الضابط بإدارة الجوازات في حديثه السياسيين مسؤولية فصل الشعبين عن بعضهما، ولكنه استدرك قائلاً ستظل العلاقات بيننا كشعبين كما هي ولن تتغير لأننا نغادر الشمال ونحن راضين عن إخوتنا فيه. وامتزجت الأحاسيس عند «أم جمعة» إحدى السيدات الجنوبيات بالفرح والحزن، وكشفت ل«آخر لحظة» أنها لم تشاهد الجنوب منذ أن خلقت، وأنها متزوجة برجل شمالي وأنجبت منه بنتاً اسمها «كفاح»، وذكرت أنها ستغادر إلى الجنوب وتأخذ ابنتها معها بعد أيام على أن تتواصل مع زوجها تلفونياً ومن ثم تركت الباب مفتوحاً لمستقبل العلاقة بينها وزوجها، واختتمت حديثها بأن الفراق حار. وعبر عدد من الضباط والجنود من أبناء الشمال من قوات الشرطة الذين استنطقتهم «آخر لحظة» عن بالغ حزنهم أثناء احتفالية الوداع للفراق الذي وصفوه بالقسري الذي وقع بينهم وزملائهم من أبناء الجنوب، وأعربوا عن أملهم في أن يستمر التواصل الاجتماعي والتعاون الشرطي بينهم عقب مغادرة الجنوبيين إلى أراضيهم.