من ترى يعرف دولة انشطرت وكان بين شطريها وئام؟ شخصياً لا أعرف، فالكوريتان ها هما، واليمنان، واثيوبيا وارتريا، والالمانيتان ظلتا في حرب باردة الى أن توحدتا وهكذا.. المشكلة دائماً هي أن الافتراق لم يكن إلا لسبب موضوعي استعصى على الحل، ما أدى الى استحالة العيش معاً، ولكن ذهاب أي من الطرفين لحال سبيله سوف لن يعني نسيان (الغباين) والثأرات، ولا الأحباب والممتلكات التي فقدت أناء الماضي، ولابد أن بؤر هذه التركات السالبة وندوبها ستبقى مستعدة لإثارة الضغائن والذكريات المريرة كل مرة، بسبب أو بلا سبب، لذلك فلا أمل في سلام دائم وأمن مستتب بين شطري السودان ليعيش الشعب المنقسم على نفسه في ثبات ونبات. اذاً فلا مندوحة عن تأمل الحكماء وذوي البصيرة هذا الأمر مبكرا وعلى نحو جاد وواقعي، بغية تقليل احتمالات نشوب حرب شاملة خلال السنوات العشر الأولى من عمر الانشطار. ما قلت السنوات العشر إلا لأنني لا أتوقع أن تقوم حرب بين شطري السودان في غضون سنوات أقل (سنتين أو ثلاث) لأن كلا الطرفين ليس مستعداً لها الآن، لا نفسياً ولا اقتصادياً، والعمليات الجراحية التي انتهت بالبتر كانت مرهقة في الحقيقة ومكلفة، كما تخللها نزيف لابد من تعويضه، الأمر الذي يستغرق وقتاً، وهذا الوقت لابد يزيد على السنوات الثلاث ويقل عن العشر، إذا لم يكن من الحرب بد. فكيف تهدأ النفوس ، وتتناسى الجراحات إن صعب عليها أن تنساها؟ تلك هي الخطوة الأولى وهي لعمري ليست بالمستحيلة إذا خلصت النوايا واتسم أهل الرأي وأهل القرار معاً بتحمل المسؤولية وبالإرادة النافذة واضعين مصلحة الوطن والمواطن في المقدمة، لا العواطف والمصالح الحزبية ومبيعات الجرائد. النفوس تهدأ اذا شغلت بالخير عن الشر، ومن يضحك ويغني فإنه لا يقدر على الهجاء والبكاء في الوقت ذاته.. هكذا فلابد لحكومتي الشطرين من فعل كل ما بوسعهما من أجل تطييب خواطر الطرف الآخر، اقول كلتا الحكومتين لا احداهما فقط، ولقد آن الآوان لحكومة الحركة الشعبية أن تتحرر من خانة التأبي والتمنع والتلقي الى خانة العطاء وأخذ زمام المبادرة هي الأخرى من أجل إحداث تحولات إيجابية لصالح شعب الشمال، فالجنوب الآن دولة، والدولة لابد أن تكون في موقع الشرف والسيادة، وذلك لا يحدث إلا من خلال العطاء والمبادرة بالخير، فلقد انتهى الوقت الذي تتصور فيه الحركة الشعبية أنها مرغوبة، وأن الشمال بحاجة اليها حاجة ماسة وأنها لا تخسر شيئاً، هذا الكلام لا مكان له الآن، والحقيقة هي أن الاستغناء عن سوق الشمال لا اقول مستحيل ولكنه مكلف، والاستغناء عن خطوط نفط الشمال وموانئه مستحيل في السنوات الأولى كما أنه مكلف في السنوات المقبلة.. اذاً فالواقعية مطلوبة والتعامل بنفس كبيرة تليق بالدولة ذات السيادة أمر لا غنى عنه الآن . وفيما يلي القضايا العالقة فلابد من المرونة، قسمة النفط مثلاً ينبغي أن تظل كما هي الى حين بناء خط جنوبي يذهب الى موانئ كيني، ومن ثم يمكن أن يتحرر نفط الجنوب فعلاً من قبضة الشمال وأما قبل ذلك فهذا محض عبث، لأن عنصر المصالح لا يمكن اغفاله خاصة وأن الشمال يمر بأزمة اقتصادية لن تنتهي قبل خمس سنوات موعد تصدير كميات إضافية من البترول تعادل ما افتقده بالانفصال، وهكذا يكون الطرفان في أمان تحققه معادلة تسوية الأمور في السنوات الخمس الأولى. وقضية ابيي تحتاج الى مزيد تنازل من الطرفين ، واذا حدث هذا فسوف تتحقق الأمنية الأهم باتجاه إعادة وحدة الشطرين على أساس كونفدرالي، ولكن لكي يحدث فإنه ينبغي النظر بموضوعية الى مقترح سلفاكير، إذ لماذا لا نقوم بتطويره بدلاً عن أن نرفضه ونعتبره محاولة شراء فقط؟، لماذا لا نقول مثلاً: لا مانع من أن تتبع ابيي ادارياً الى دولة الجنوب في حال كانت نتيجة الاستفتاء الذي يشارك فيه المسيرية لصالح الجنوب، على أن يكون نائب الرئيس من شيوخ المسيرية ولديه فيتو وتكون سيادة المسيرية على الاقليم كله كسيادة الحركة الشعبية على الجنوب بعد نيفاشا، بمعنى أن يكون لها جيشها وشرطتها الشمالية وأن يتم ذلك كله ضمن صيغة حكم ذاتي خاص، لم لا نفكر في هذا حتى نقلل من احتمالات الحرب بيننا؟، أو أن نطور فكرة ميارديت بطريقة أخرى وهي قبول الطرح مبدئياً ولكن في اطار اتفاق قيام سودان موحد كونفدرالياً، لم لا ؟! أما أن نرفض عاطفياً هكذا فهذا موقف سلبي ومتخلف، زي ما هو شاطر أنت كن اشطر منه، الكعوبية في شنو؟ . ولكن الأهم من كل ما سبق، وفي سبيل تحقيق هدف ضمان عدم نشوب حرب بين الشطرين في المسقبل القريب، فإنه لابد من ايقاف حملات الترويج للحرب، لابد من وضع حد لهذا العبث وبالقانون، ولابد من العمل سوياً نحو تعزيز فرص الحلول السلمية وتطييب الخواطر وأن نحاول استثمار كيان الحركة الشعبية قطاع الشمال لصالح مشروع التواصل الايجابي (اقتصادياً وسياسياً وأمنياً)، فلنجعلهم جنوداً للسلام والبناء لصالح الطرفين بدلاً عن أن يكونوا جنوداً محتملين للجنوبيين حال الحرب التي نحاول ههنا تحاشيها، لابد من السعي بين الفرقاء الجنوبيين لاصلاح ذات بينهم ولملمة شعثهم ثم مفاوضتهم مجتمعين على الوحدة الكونفدرالية التي سوف لن تكون خياراً غير جاذب هذه المرة.. لم لا نطلق حملة لجمع التبرعات وسط كل شعب الشمال من أجل مساعدة الجنوبيين الذين ينتقلون للعيش في وطنهم بعد أن عاشوا بيننا سنين عددا، فلنعمل معاً وسريعاً بهذا الاتجاه ولا يهم أن ننجح طالما هو حق وخير.. وأخيراً أليس من الحكمة بمكان أن نحول مظان الحرب الى آفاق مصالح مشتركة؟.