تداهمنا المفآجات أحياناً خلافاً لكل التوقعات إن طقس المكان، ومن أول نظرة يوحي لك بأنه لا جديد. فمازال الملل يتسرب لدوائر السياسة وأندية الثقافة ومجالس الأنس، وحتى برامج القنوات برغم أنها استجارت بعدة حيل، منها التوسل إلى(الفيس بوك) وإجبارالمذيعات ليتبخترن داخل الاستديو قبل أن يلزمن الكرسي، ثم اللجوء للبث المباشر على أمل في مفاجأة ما تحدث فى أية لحظة قبل حكاية(اللعوتة)التي فاجأتني تماماً سأضرب مثلاً بمفاجآت أخرى من غير ميعاد، فلقد شهدت دورة بالخرطوم لمراسلي الإذاعة بالولايات، المشهد عادي لكنه انقلب فجأة حينما نهض قادماً من الأرياف يعلق على ورقة العمل، لكنه تحدث عن شيء مختلف تماماً هو الثناء على (والد) مقدم الورقة المذيع عبدالعظيم عوض لأنه قدم للبلاد هذا الابن البار بالإذاعة ورسالتها.. شعرت بأن تجديد القوالب ممكن فليتها تتجدد بالجملة لتختفي حكاية(ليس فى الإمكان افضل مما كان). لا.. الأفضل موجود، فترقبوه، أقصد افسحوا له الطريق.. وذات يوم جمعنا بالقاهرة ملتقى لممثلي التلفزيونات العربية وتقرر أن تكون البداية بالتعارف، كما هو معروف.. أطلت المفاجأة حين أعلن منسق الملتقى أنه سيتركنا لخمس دقائق بعدها يقوم كل منا بتعريف مجاوره، وبالعكس.. فهجمت على شخصي جارتي فى الجلسة وهي مديرة إحدى القنوات المصرية لتتعرف على (الأخ من السودان الشقيق).. ومن جملة سيرتي الذاتية قدمتني وكأني مادة لبرنامج وثائقي فرائحي، غاية فى الإبتكار والروعة. وقريباً من هذا مفاجأة (اللعوتة) القرية الوادعة على خاصرة طريق مدنى الخرطوم، فإني كنت بانتظار ورقة يكتبها دكتور البوني فانشغلت بضمانات استلامها حتى لا تضيع بين الأماكن التي يغشاها، فهو كاتب صحفي ومحاضر ومقدم برامج في الإذاعات والقنوات وأخو إخوان سباق فى المناسبات ( ما شاء الله)، وتذكرت سحر الكتابة باليد وبهائها لدى شخصيات تعاملت معها بالورق منهم البروفيسور عبدالله الطيب، والأستاذ محمود أبو العزائم، والأستاذ عبدالمنعم قطبي عليهم رحمة الله، وقصاصات يومية بخط اليد محفزة للمتابعة، كان يتحفنا بها الأستاذ الطيب مصطفى مدير التلفزيون، ومما احتفظ به من الأوراق بخط اليد تقديم لكتابي الأول للبروفيسور عبدالله حمدنا الله، فتشوقت لخط البوني وأشفقت ألا يكون مقروءا!. كانت المفاجأة أن وصلتني رسالة الكترونية من اللعوتة رأساً الى داري بأم درمان عبر النت، بلا ورق( Paperless )!. شغلني الأمر فتذكرت تجربة الطيب صالح..نجيب محفوظ(المحلية أساس العالمية). ماكتبه البوني عن قريته وطموحات أهلها والتفاني في الدفاع عن حقوق المزارعين ذكرني بحكاية الثناء على(والد)عبدالعظيم عوض لأتصور أن الحديث عن البوني يستلزم الثناء على البيئة التى أنجبت، الوالد والوالدة والأسرة التى ربت وقدمت للسودان إنساناً سوياً متوازناً متميزاً . عبقرية المكان ، تلك هي الفكرة فكم من مكان اشتهر بمشاهيره والمتصدين لقضاياه . أخيراً إلتفتنا للبطل الأساسى وهو الوالد، الأسرة والمكان،. لنقل إن الوقت حان لنحتفي بهذه المقومات الذاتية فى عصر التربية عن بعد . فلندرك ذاتنا وذكرياتنا وحلمنا ومعززات سربنا الآمن،. هكذا كان حظ البلدان التي كتبت عنها الروايات والبرامج المصورة، أم درمان وكسلا والحلفايا، طقت، عد الفرسان، عطبرة، ابي ، دنقلا العجوز وزريبة الشيخ البرعى وهكذا، ولا أنسى قريتنا العزيزة (الغابة) التي قدمت نموذجاً فى الإعتماد على الذات ومحاربة الاستعمار، وظلت آمنة في كنف الخلاوى الى أن داهمتها المدنية والعالمية لتجدها محصنة والحمد لله. أم درمان مثال لعبقرية المكان وثرائه وتحصنه ضد عاديات الزمن، تضرب المثل الآن لإمكانية إستثمارالفكرة، ففي هذه الأثناء وصلتني رسالة من المخرج عصام الدين الصائغ تدلني على موقع البث التجريبي لقناة(أم درمان) على القمر لصاحبها الأستاذ حسين خوجلي، ذاك المبدع المفتون بالتجديد والألوان. لقد انفعلت أكثر بتجربة هذه (اللعوتة) وأنحاء أخرى مثلها زرتها على امتداد البلاد، وأيقنت أن الاهتمام سيتعاظم بأماكن كثيرة لتميزها ولقابليتها للشهرة كأم درمان وأمثالها المتوشحات ببريق الأصالة وبنوازع التجديد.. كاميرا التلفزيون روجت لسيرة هذه المدن والقرى الأثيرة، ولا أدري ما لو كانت الكاميرا عرفت طريقها الى اللعوتة، التي قرأنا عنها، ولكن من المؤكد أنها واخوات لها بمختلف أنحاء البلا، مرشحات بجدارة لتنطلق منها مشروعات إعلامية باهرة تستفيد من ثورة الاتصالات التي جاءت بفكرة جديدة هي(راديو القرب). الفكرة هي أن المحليات مستودع للمعرفة والتنوع والإضافة والإبهار، ودورها المنتظر هو تعزيز الشفافية والمشاركة والتنمية التحتية التي يتنادى اليها العالم اليوم.. إذاعة محلية(FM) متصلة بالنت أي عالمية، تكلفتها بسيطة وتشغيلها سهل وشرط التصديق بها وجود جماعة لها أهداف مشتركة وبرنامج يضيف لا يكرر.. فماذا تقدم (هنا اللعوتة)؟ التنوير أولاً هي وغيرها وكشف المطمور من الإبداعات المحلية والعودة لأمجاد الحركة الوطنية ومشروع الجزيرة والمناقل ذلك العملاق أقال الله عثرته.. أدرك أن نجوعنا لديها مالا يخطر على بال لكنا لم نلتفت لذلك بعد، وحين زرنا الصين أخذونا لأقاصي الريف لنتعرف على قرية لها قصة كفاح، نحن أيضاً لدينا قرى لها قصص جديرة بأن تروى عالمياً.. زرت قبل بضع سنوات قرية بالمناقل بصحبة الدكتور عبدالمطلب الفحل الذي اقتحم الأرياف النائية ببرنامجه الجماهيري التفاعلي(على الخط) ورأسماله فقط هاتف القرية الوحيد... المناسبة تحولت الى مواكبة للأحداث فنهض من يرتجل خطاباً وطنياً يقول فيه بكل جدية (وأحذر أمريكا للمرة الثانية)!.. تذكرت(عبدالناصر) حين قال قولته المشهورة (أقول لنكسون) فخرج توفيق الحكيم للناس بكتابه (عودة الوعي) قائلاً نحن فى حاجة لرئيس يملأ الشاشة ويحذر أمريكا.. لقد اتضح أن أمريكا أيضاً تعرف الخوف، وحقيقة أشفقت عليها من إنذار هؤلاء الأشاوس الذين إذا قالوا دعوا وفعلوا.