لم أكن أتصور أن يمرَّ عليّ ليلٌ أو نهارٌ وأمي غير موجودة فيه.. كنت دائماً ما أطرد فكرة وفاة والدي تماماً ولم أكن أصنف ذلك من باب ضعف الإيمان، لأنها طبيعة الإنسان أن يجد من يحبهم حوله طوال عمره، لكنها أقدار الله ومشيئته فهو الخالد، والخلود ليس مكتوباً لمخلوق.. فقد قال تعالى في محكم تنزيله: «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» صدق الله العظيم.. فسبحان الله. سادتي ها هو العام قد مرّ على رحيلها لكن ألم فراقها لم يبارح مكانه، ففي كل لحظة هي معي في كل حركة.. في كل شيء حتى عندما أكون في أحلك ظروفي.. وعندما أخرج من المنزل وأعود إليه.. فبيت هي ليست فيه ليس له أي طعم، بل قد أصل لدرجة أنني أحس بالغربة فيه.. فكل شيء فيه يذكرني بها.. وكل مكان فيه لي فيه ذكرى معها تؤرقني وتفقدني القدرة على التركيز، كل ذلك «كوم» ولحظات مرضها الأخيرة «كوم» آخر، فقد تألمت والدتي كثيراً وعانت من مرض السكري العضال الذي أرهق جسدها النحيل حتى وصل لرجلها التي لم تطأ موضعاً حراماً أبداً، فقد كانت أمي عابدة ساجدة تخشى الله.. وكان الناس يعرفونها بالصبر، فهي صبورة منذ صغرها لم تهزها كل المصائب التي مرت بها، بل وقفت أمامها بإيمانها القوي.. ومعروف أن الصبر درجة عالية لا يصلها أي إنسان وادعو الله أن يرفعها به أعلى الدرجات.. كانت أمي تصبرنا حينما نجزع من مرضها أو نخاف عليها منه، كانت ثابتة ونحن المزلزلون.. كانت واعية ونحن الجاهلون.. هي تعلم سادتي علم اليقين أن لن يصيبها شيء إلا قد كتبه الله لها.. وتقول إن المرض كفارة.. سادتي لم تجزع أمي حينما فقدت بصرها وظل إيمانها بالله عالياً وهي تقول إن فقد البصر ابتلاء عظيم، وإن الله سيبدلها به خيراً.. كانت أمي حنينة وطيبة ولم تعاملنا في يوم من الأيام على أننا كبرنا وأن رعايتها لنا قد انتهت بانتهاء تزويجنا واطمئنانها علينا في بيوت أزواجنا، كانت تحافظ علينا مثل الزجاج الذي يخشى عليه من الكسر.. كانت ظهورنا مسنودة بوجودها.. نحس بالأمان ولا نخشى شيئاً في الدنيا.. فقد كانت أماننا وأمننا الذي بدأنا نفقده بعد وفاة والدي رحمه الله، فقد كانا ظلاً ظليلاً وشجرة تعطي ثمارها حتى حينما نضربها بحجر.. سادتي لكم أن تتخيلوا حالنا ونحن بلا أب أو أم.. لكم أن تتخيلوا أننا قد خرجنا إلى الحرور والسموم من ظلهما.. سادتي أدعو معي لهما في هذا الشهر العظيم المبارك بأن يدخلهما الله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.. ونحن أبناؤهما نشهد أنهما لم يقصرا فينا ولم يكفا عن رعايتنا حتى في لحظات مرضهما وفي قمة احتياجهما لنا.. ولا نستطيع إلا أن نقول «إنا لله وإنا إليه راجعون».. وإننا راضون بما قسمه الله لنا.. فهو لا يظلم عباده أبداً.. وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقكما لمحزونون.