أتمنى أن يسمح لي القارئ الكريم، أن أنشر اليوم، وعلى هذه المساحة، رسالة حب وشوق خاصة، أبعث بها إلى أحب إنسان عرفته منذ أن تفتحت عيناي على الحياة، ودروبها المتعرّجة، وبحارها العميقة، متلاطمة الأمواج، وغاباتها الكثيفة، وصحاريها المخيفة، وشموسها المضيئة، ونجومها البعيدة.. ومنذ أن تذوقت طعم الحياة حلوها ومرها، إن كان للحياة طعم. أكتب رسالتي، وأنا أعلم أن من تعلّق به قلبي كل سنوات عمري لن يقرأها، فقد غاب تحت ثرى أم درمان، منذ عامين.. تحديداً في مثل هذا اليوم، من العام 2008م.. لكن ذلك اليوم لم يكن خميساً بل كان ثلاثاء، وبلادنا لا زالت تعاني من آثار الجراحات التي خلفتها قوات العدل والمساواة عند محاولتها الفاشلة لغزو المدينة. تفاصيل ذلك اليوم، ما زالت صورتها مطبوعة في عقلي، أسترجعها كثيراً وطويلاً؛ لأرى سيدي، ووالدي، الأستاذ محمود أبوالعزائم -رحمه الله- وهو جالس في وسط سريره، في ذات المكان المعهود، قريباً من غرفته الرئيسية، يدعوني لتناول الإفطار معه، فأجلس وأستحي أن أقول له: إنني قد تناولت إفطاري باكراً.. أجلس إلى جانبه، وأمدّ يدي وأتناول عدة لقيمات.. وهو يقص عليّ ما حدث له منذ الصباح.. وكنت أحرص على أن أراه قبل أن أتوجه إلى عملي صباحاً، وأن أفعل ذات الشيء قبل أن أعود، فالمسافة بين البيتين لا تزيد عن الثلاثمائة متر. ضحك والدي.. وكانت تلك آخر ضحكة أسمعها منه، وقال لي: (محمد داؤود الخليفة كان بتكلّم معاي الصباح، وقال حيجيني بكرة ولا بعدو.. بالمناسبة عمك محمد ده راجل عظيم). شربت الشاي معه.. وضعت الكوب، ويممت وجهي نحو الصحيفة، وكان يناقش معي أمر تلبية دعوة لزيارة تركيا، اعتذرت عنها، وقلت له: إن ظروف البلد لا تسمح، لكنني لم أقل له الحقيقة، فقد كنت أشعر بأن الفراق وشيك.. كنت أحس بذلك، ولا أستطيع أن أقول لأحد، لكنني، في لحظة صدق وتجرد وألم، قلتها لأخويّ وصديقيّ، الأستاذين: الهندي عز الدين، وعبد العظيم صالح، ونحن داخل الصحيفة.. قلت لهما: إنني لن أسافر؛ لأنني أخشى أن يلازمني الإحساس بالندم طوال حياتي، إن حدث لوالدي شيء، وأنا خارج البلاد، وقد تركته خلفي مريضاً. ما كدت أصل إلى مكتبي حتى رنّ هاتفي، فقرأت اسم المتصل: (الوالد).. كان صوته غريباً أحسست به مهشّماً.. هل يتخيل أيّ منكم، أو يعرف معنى الصوت المهشم؟.. قال لي: (ضرب لي عصام الصايغ، ونقل لي بكل أسف خبر وفاة محجوب عمر باشري). قدمت له العزاء الحار.. لكنني شعرت بأن والدي يتسرب من هذا العالم. لم تمرّ سوى دقائق، حتّى أخبرتني (مروة) ابنة شقيقتي الكبرى، بأن جدها تعب، ويعاني من ضيق في التنفس.. طلبت إليها أن تتصل ببقية أشقائي، وأن ينقلوه على الفور إلى المستشفى؛ لأكون معهم هناك.. وقد كانوا هناك قبلي.. كان يجلس على طاولة الكشف بجلبابه الأبيض النظيف، وعندما وقفت أمامه طلب إليّ أن أعيده إلى المنزل.. قال لي: (يا مصطفى أنا ما زول صغير.. أنا عمري 82 سنة.. أحسن أموت في البيت). لقد عصيت أمره لأول مرة في حياتي، ولم أمتثل لما كان يريد.. كنت وأشقائي أكثر الناس حرصاً عليه وعلى حياته.. لكن أمر الله نفذ.. ومات السيد الوالد الصالح البارّ بأهله وأبنائه في ذلك اليوم.. الثلاثاء الثالث عشر من مايو من العام 2008م. أدعو له بالر حمة والمغفرة.. ولنا كذلك.. فقد مات من لم تفتقده أسرته وحدها، ولا أهله وحدهم.. بل كل الوطن.