لا يكاد يمر يوم أو يومان إلا تطالعنا الصحف بخبر «طازج» ولكنه «مكرر»، كما تكون طزاجة الرغيف وتكرار هيئته ومذاقه المعتاد. وكما يخرج «رغيف-العيش» من الفرن البلدي أو الأفرنجي، فإن الخبر على مدى ما يقرب الشهرين -قبل وبعد «حادثة الانفصال»- يخرج من تلقاء «مطبخ» المؤتمر الوطني، الواقع في مواجهة المدخل الرئيسي لمطار الخرطوم على شارع أفريقيا «النادي الكاثوليكي سابقاً». مطبخ الوطني تعامل مع الخبر وكأنه وصفة سرية -إن لم تكن سحرية- كتلك الوصفات السرية التي اشتهرت بها أكبر شركات ومطاعم الوجبات السريعة «الفاست فود»، بحيث أصبحت وصفة «كنتاكي» أو «ماكدونلد» من أسرار تلك «الإمبراطوريات» العليا، فلا أحد يستطيع الاطلاع عليها، كما أننا لم نسمع اختراقاً مخابراتياً ولو عن طريق الصدفة لأسرار تلك الوصفات المشكلة لمذاق كل وجبة من تلك الوجبات، ولا نعرف الطريقة التي استطاعت عبرها تلك الشركات العملاقة المنتشرة في أركان الكوكب الأربعة على وصفاتها السرية تلك، ولكن نُقدر أنها لم تلجأ للأساليب القانونية المعتادة التي تنظم حق الملكية الفكرية، بل سيًّجت اختراعاتها ووصفاتها عبر وسائل أخرى تخصها وتحصِّنها من الاختراق. الأخبار الصادرة من «مطبخ الوطني السياسي» حافظت حتى الآن على أسرار الوصفة التي يعكف رجاله ولجانه على «توضيبها»، فتخرج تلك الأخبارمعماة و«مدغمسة» تشير إلى العناوين وتتجاهل التفاصيل، من مثل ما نسب لأمين القطاع السياسي للحزب د.الحاج آدم يوسف في صحف السبت من أن «المؤتمر الوطني يكثف جهوده السياسية لتحديد مواقفه النهائية من قضايا الدستور وهيكلة الدولة، وذلك في أقرب وقت ممكن» وكذلك الذي نسب في صحف الأحد إلى د. قطبي المهدي رئيس القطاع السياسي من أن «المؤتمر الوطني بصدد إصدار (قرارات) في غضون الأيام القليلة القادمة ستحدث تغييراً كبيراً في شكل الدولة والحكم بالبلاد».. هكذا «حتة واحدة»!!، بينما كان تصريح الحاج آدم لنفس الوكالة الرسمية (إس ام سي)، أكثر تواضعاً وأقرب إلى المعقولية، حيث أوضح «أن حزبهُ يتعامل مع هذه القضايا كحزب سياسي يحمل رؤى وأفكاراً ومواقف محددة كغيره من الأحزاب الأخرى التي تعكف بدورها لتحديد موقفها من الدستور والسلطة والحوار الوطني». وبرغم «النكهة الديمقراطية» في تصريح الحاج آدم، القادم من «الشعبي» إلى «الوطني» منذ وقت قريب، إلا أنها على ما يبدو لا تعبر عن حقيقة ما يجري في كواليس مطبخ الوطني، وأن ما صدر عن قطبي بعده -من الناحية الزمنية- وهو رئيس القطاع، نقدر أنه الأقرب لتصوير الواقع وحقائق الموقف، خصوصاً وتصريح الحاج آدم لم يتعرض للقضية الرئيسية التي نتناولها هنا بالتعليق وهي «إعادة هيكلة الحكومة». فقد صرح د. قطبي بأن «المؤتمر الوطني بصدد إصدار قرارات في غضون الأيام القليلة القادمة ستحدث تغييراً كبيراً في شكل الدولة والحكم بالبلاد، قاطعاً بأن الشعب السوداني سيستقبل قرارات جديدة تتعلق بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد انفصال الجنوب»، مضيفاً قوله «إن هناك قرارات مرتقبة ستعطي إشارات واضحة ومؤثرة تجاه بنية الدولة الجديدة وشكل الحكم وكيفية المشاركة في السلطة، فضلاً عن مشاركة الأحزاب في التشكيل الوزاري»، وتوقع قطبي مشاركة واسعة للقوى السياسية في أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية في «الحكومة العريضة». إذن، فإننا في انتظار أن تخرج «الوصفة الوطنية» حول بنية الدولة الجديدة وهيكلها وحجمها وعدد وزاراتها، وكل ما يتعلق ب«الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي» -كوجبة جاهزة- قد تكون على شكل «بوفيه مفتوح» أو «ساندوتشات» سريعة، ولكنها في كل الأحوال «جاهزة» وما على الشعب السوداني(الفضل) إلا أن «يستقبلها» على حد تعبير الدكتور قطبي، ويلتهمها أيَّاً كان مذاقها، فهو - كالعادة- منذ أن كان «الفتح الإنقاذي» يلعب دور المتلقي وبهذا تصبح هذه القرارات«وصفة» وصيغة مُعبرة عن مصالح الحزب الحاكم، وكيف يتدبر شؤونه، وما هي أصلح وأقرب الطرق والوسائل التي تؤمن له البقاء «حيث هو». ولو لم يكن ذلك هو الهدف، فلماذا لم تشرك القوى الأخرى السياسية والاجتماعية والفعاليات الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة وأجهزة الإعلام المسموعة والمشاهدة في ورشة عمل كبيرة أو مجموعة ورش وندوات تبحث مستقبل البلاد، وشكل الحكم وإعادة هيكلة الجهاز التنفيذي مثلاً، بما في ذلك عدد الوزارات والوزراء، بحيث يصبح «نصف رأي الحكومة» عند الشعب وقوى المجتمع الحية؟! لكن الحكومة -ومن أسف- تصر في كل مرة وفي اللحظات المفصلية على تحويل الشعب والقوى السياسية الأخرى إلى «متلقين» أو في أفضل الأحوال إلى «كومبارس»، فهي تتصرف في كل ما يخص «الدولة» وليس «الحكومة» فقط على أنها دولة حزبها «الوطني» وليس دولة السودانيين، بجميع نحلهم ومللهم، وهذا المدخل إلى التخبط الذي هو وليد «شقاء الرأي الواحد» المفضي إلى الكوارث والبلايا، تماماً كما حدث في «نيفاشا» التي انتهت إلى الانفصال، وما حدث في دارفور وما ترتب عليه من أزمات متلاحقة ومحاولات حل فاشلة وتدخلات وملاحقات دولية، وهذا ما يبدو أننا «سنستقبله» في الأيام القليلة القادمة بعد أن ينتهي الوطني من إعداد «وصفته السرية» لمستقبل البلاد والعباد في «الجمهورية الثانية» امتداد و«بقية» الجمهورية الأولى.. والله غالب!