وتعربد في فضاء الكون هذه الأيام.. سحب الديمقراطية الماطرة.. هي تماماً مثل تلك التي ترنم بها محمد ميرغني.. هيمانة في جوف الشتا تحلم بالخريف.. هي تلك التي كانت أبداً ودوماً ولمدى زمان وأزمان.. تتقافز.. وتتعابث.. وتتراكم فوق سهول وبراري وغابات أوربا.. حيث الديمقراطية الزاهية المزهوة.. وهي تكرم وتحترم وتوقر و«تدلع» الإنسان.. هي التي حملتها لنا في هذه الأيام المجيدة.. رياح تأخرت كثيراً وغابت طويلاً وهي تدفع سحب الديمقراطية.. لتهطل وابلاً في صحراوات عمرنا الجديبة حتى أزهرت ورداً في تونس.. ونشرت ونثرت عطراً في أم الدنيا.. وأخرى تنتظر على جبال وهضاب وصحارى.. وواحات اليمن.. ومنها ما بدأت حبات رذاذها تصافح وجوه وأبناء «المختار».. وركام من السحب.. يتجه وهو كقطع الجبال.. زاحفاً إلى أرض الشام.. وهل نحلم بوصال المطر.. وبحضور السحب في أرضنا اليباب.. وقفارنا السراب.. آمين يا رب العالمين.. نعم أنا مجنوب بالديمقراطية.. أذوب وجداً في قسماتها الفاتنة.. أنوح حباً عند غيابها القسري.. أتحرق شوقاً عندما تغيب عن الميعاد.. لأفتش ليها في اللوحات وفي الخاطر الما عاد.. وفي أحزان عيون الناس.. وفي الضل الوقف ما زاد.. وتصدق يا «الدوش» أن الضل لم «يقف» ولم يتمدد فقط.. بل ويا خسارة فقد تراجع.. حتى بتنا نمشي في ظلنا.. والشمس عمودية.. كل الأشعة.. مباشرة من قلب الشمس.. إلى قلب «الرأس».. ولا ظل ولا ماء ولا شجر.. وذاك يهددنا.. بالخازوق.. أي خازوق تعني يا هذا.. قال أحدهم.. إننا نفتري على النعمة.. نعمة الهدية الباذخة.. التي تكرم بها علينا.. جنكيز خان.. فقد أحرق المكتبة.. وأشعل النار في المدرسة.. ثم اجتث الشجرة.. ولكن لكرم حاتمي منه.. ولرحابة صدر.. ونبل روح.. وعفة يد.. وطهر نفس.. خيّرنا.. بل أصبح خياره لنا مطلق الحرية.. أن نموت على الخازوق.. أو طعناً بالرماح.. أم تجرعاً للسم.. أم قفزاً في حقل نار مشتعل بالجحيم.. يا لسماحتك أيها النبيل.. وأنت «تشاورنا».. في سعة صدر.. وديمقراطية شاسعة.. نختار كيف نموت.. شكراً لك يا صاح.. مهلاً أحبتي.. الفرق بين الجنون والعبقرية شعرة.. بل «سبيبة» رقيقة.. لا تكاد ترى بالعين المجردة.. ويا لهول «الشعرة» أو «السبيبة».. إنها أخطر سلاح في التاريخ.. نعم إن «الشعرة».. قد صنعت تاريخاً.. بل نهضت في يوم من أيام التاريخ جداراً فاصلاً.. شاهقاً بين الحق.. والباطل.. بين الشرعية واللا شرعية.. هي التي.. نزع بها الأمر من علي كرم الله وجهه.. إنها شعرة أجل خطراً وخطورة من سيف باتر.. نعود إلى الفرق بين العبقرية والجنون.. أنا لست عبقرياً.. والدليل كل كلماتي المضطربة أعلاه.. الراعشة أعلاه.. المجنونة أعلاه.. وأيضاً أنا لست مجنوناً والدليل كل كلماتي الواضحة أعلاه.. الخانقة أعلاه.. الحالمة أعلاه.. المجنونة أعلاه.. نعم ولكن حتى تكون عبقرياً مثلي.. أو مجنوناً مثلي.. أنظر حولك.. تلفت يميناً ويساراً.. ثم أقرأ الصحف.. ثم افتح الراديو.. استمع إلى ثلاث نشرات أخبار.. انتظر حتى المساء افتح التلفزيون.. استمع إلى نشرتي أخبار.. لا كفاية نشرة واحدة.. شريطة أن تكون «الرئيسية».. ثم أخرج إلى الشارع «بكرة».. وأنت تمني النفس بأنك سوف تتجول في شوارع وطرقات «يثرب» في عهد الخلافة الراشدة.. أو «تتحاوم» في أزقة وشوارع «الفسطاط» في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.. وتمني النفس أيضاً بأنك سوف ترى الرفاهية وتعيش يسر وترف الحياة.. وكيف هي الأسواق.. تفيض وتتدفق.. بباهر وبارع السلع.. وكيف أن السوق تنفرط فوقه مظلة الأخلاق والسماحة.. وفيوض الإنسانية.. عندها.. وعند أول مشهد.. سوف تدرك أن القيامة لابد أن قامت.. ثم تنكر مدينتك.. أو تنكر «إذاعتك».. أو تنكر «تلفزيونك».. ولكن حتماً سوف تنكر نفسك.. وسوف يتلاشى الخط الفاصل.. أو الشعرة الفاصلة بين العبقرية والجنون.. ثم «تجن» ثم تصبح مجنوناً.