على قول شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب في رائعته النبوية المتبتلة «صلى ياربي على المدثر»، بعد أن يطلب من ربه أن يتجاوز عن ذنوبه ويغفر ويعنه بمتاب أكبر، قوله «فزماني ولعٌ بالمنكر»، فإن زماننا هذا الذي نعيش أصبح مولعاً باستخدام مفردة «الثورة» في كل شيء وللتعبير عن أي مجال، من قبيل «ثورة الاتصالات» أو «ثورة الموضه» أو «ثورة الهيبيز»، حتى انتهى الأمر في بلادنا بعد «ثورة الإنقاذ» التي تطلق - اصطلاحاً أيضاً- على انقلاب 30 يونيو 1989م، انتهى إلى ما يعرف ب «ثورة التعليم»، والتي تشهد الآن ثورة «على الثورة» من أهل الإنقاذ أنفسهم بعد أن أدركوا - أخيراً- أن حقل التعليم بالذات ليس حقلاً صالحاً لزراعة وإنبات «الثورات»، بل هو حقل للتخطيط والبرامج المدروسة، لأنه معني في المقام الأول بمخاطبة عقول النشء وليس عواطفهم، وفق مناهج معلومة ومجربة وليس بالانفعال والاندفاع الذي هو طابع الثورات. يوم الأحد الماضي شهد مجلس تشريعي الخرطوم ما يمكن وصفه بأنه «ثورة على الثورة» أو سورة غضب على ما آلت إليه أوضاع التعليم في بلادنا في ظل ما يسمى «ثورة التعليم»، تلك الأوضاع التي تبارى السادة نواب المجلس في تشريحها، بل تجريحها، لإظهار ما بلغته من سوء وترد وتخبط وإهمال. ونقد تشريعي الخرطوم واستنكاره للأحوال التعليمية في بلادنا، لا يأتيه «الظن بالكيد» لا من خلفه أو من بين يديه، لأنه مجلس مما يسميه اللبنانيون ب«الموالاة» وليس للمعارضة فيه نصيب، فجميعهم من سدنة البيت الإنقاذي أو على الأقل من مشايعيه. اللافت أن ثورة تشريعي الخرطوم أو سورة غضبه على أوضاع التعليم في الولاية، تأتي بعد أسبوعين تقريباً من حديث وكيل وزارة التربية والتعليم الاتحادية د. معتصم عبد الرحيم- أحد حداة الثورة التعليمية، الذي نعي فيه بدوره أحوال التعليم في بلادنا وهوان قدره لدى واضعي الموازنات في بلادنا الذين يخصصون له ما يجعله في مخمصة دائمة وفقر مدقع، يحمل المدارس والقائمين على أمره أن يلجأوا لأولياء أمور التلاميذ لتسيير العملية التعليمية، بحيث يتحمل المواطن «6» أضعاف ما تصرفه الحكومة سواء على المستوى الاتحادي أو الولائي، وهو ماتناولنا في «إضاءة» خاصة في اليوم الأول من أغسطس الحالي تحت عنوان «حكاية ال 6 أضعاف». هذه المرة، وأمام المجلس التشريعي للخرطوم كشف وزير التربية والتعليم الولائي محمد أحمد حميدة عن وضع خطط لبيع المساحات الشاسعة» داخل المدارس لتوجيه أموالها إلى صيانة المدارس أو بناء مدارس جديدة!! أرأيتم إلى أين بلغ الأمر، وكيف تكون «الحلول العبقرية» لتجاوز الأزمات، ألا يعني هذا باختصار أنها ليست حالة إفلاس مالية أو اقتصادية فقط، ولكن حالة إفلاس في الخيال وفي فهم العملية التربوية والتعليمية، التي ليست هي مجرد مقاعد للدراسة وسبورة، إنما أنشطة مدرسية رياضية ترويحاً وإبداعاً. لذا فإن من خططوا لتشييد المدارس في الزمن الجميل جعلوا لها هذه «المساحات الشاسعة» التي لم يدرك خيال السيد الوزير قيمتها و «افتكرها حاجة زايدة ساكت»!! فكيف لمن يفكر بهذه الطريقة أن يكون مسؤولاً عن «التربية» قبل «التعليم» في بلادنا، وفي عاصمتها التي يتكدس فيها مايقارب ربع سكان السودان «الفضل» إن لم يزد. المجلس التشريعي في عمومه نعى - كما تقول الأخبار- مهنة التعليم في المدارس، ووصفها نوابه بأنها أصبحت «غير مرغوب فيها» بسبب ضعف عائدها وتردي البيئة المدرسية- التي يريد الوزير محمد أحمد أن يجردها حتى مما تبقى لها من مساحات فارغة- ولخلو الموازنة من أموال تسيير المدارس، بعد أن أُلقيت المسؤولية على مجالس الآباء، بالإضافة إلى ندرة الكتاب المدرسي وتسربه للأسواق الموازية، وأبدوا في الوقت ذاته تخوفهم من تمدد ظاهرة إهانة التلاميذ من قبل المعلمين. وسط كل هذه «الثورة على الثورة» لم ينس أحد النواب أن يذكِّر زملاءه وينبِّه الوزير بضرورة «إلغاء قصيدة منقو» بعد انتفاء أسباب الدعوة إلى الوحدة، كما زعم، فسيادته وأمثاله من الانفصاليين لا يريدون أن يسمعوا أحداً يدعو لوحدة السودان والسودانيين مجدداً، حتى وسط الأجيال الجديدة وفي المستقبل، ويرى أن أسباب الدعوة إلى الوحدة قد انتفت، خصوصاً والقصيدة تقول «منقو قل لا عاش من يفصلنا»، والرجل يريد كما يبدو أن «يعيش» ولا يريد أن تتاح الفرصة لمن يدعو عليه بدعوة قد تكون مستجابة! تحدث الوزير الولائي محمد أحمد عن ما اعتبره نجاحات، حيث وفرت وزارته كما قال 85% من مقاعد الإجلاس لكلا المرحلتين «الأساس و الثانوية» فضلاً عن توزيع 82% من الكتاب المدرسي، لكنه أقر واعترف بصعوبة تفقد نحو 600 مدرسة أساس و 40 مدرسة ثانوية بولاية الخرطوم- حليل زمن مفتشي التعليم الذين يُطلُّون على الفصول من الشبابيك دون إنذار المعلم وهو يدرس الحصة- فمثل هذا الاعتراف يعني غياب الرقابة والمتابعة من جانب الوزارة. ومع ذلك أثنى السيد الوزير على جهود المعلمين في ترقية العمل بالمدارس، بالرغم من ضآلة ما يحصلون عليه من مخصصات مالية- نحو 250 جنيهاً- لا تكفي لوجبة الفطور كما قال!!. إذا كان وكيل وزارة التربية والتعليم الاتحادية يشكو، ووزير التعليم في أكبر ولايات السودان يشكو، وإذا كان نواب مجلس تشريعي الخرطوم يشكون، وكل يندبون حظ التعليم في بلادنا ويشكون إلى الشعب،الشعب الذي لاناقة له ولا جمل في ما لحق بالعملية التعليمية من أذى وتخريب منهجي، بل دفع صاغراً «تكلفة هذا التخريب» من حر ماله وقبل ذلك من مستقبل عياله، فلماذا لا يترك هؤلاء مواقعهم و «يفسحوا للشعب في المجالس» لكي يتصرف، بعد أن قضوا هم وطرهم واعترفوا على رؤوس الأشهاد بفشلهم وضلال سعيهم في ما أسموه ب« ثورة التعليم».. أليس الاعتراف «سيد الأدلة» يا سادة؟!