لعل من الأمور والمسائل التي تقض مضاجعنا وتشل أو تشوش تفكيرنا إضافة إلى غلاء المعيشة بسبب اقتصادنا المتأرجح وسياساتنا غير المدروسة أحياناً، ساستنا الذين ولاهم الله علينا سواء من انتخبناه بأصواتنا أو من تم تعيينه، أما المعارضون من الساسة فقد زادوا همنا همين فأصبحنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ما أصبح صبح إلا وأطلت علينا من شبابيك السياسة خلافات ومن أبوابها المشرعة المفتوحة ابتلاءات، وثالثة الأثافي التمادي في نقض العهود والمواثيق والتصالحات ثم الأعراض عن تعلم أدب الخلاف الذي من طيلة ديمومته في الساحة السياسية أرى أن تضاف وتدرس مادة في العلوم السياسية تسمى «أدب الخلاف»، وهي قد تكون موجودة في طيات المتون تحت أي مسمى ضمن منهج العلوم السياسية.. ومن لم ينل حظاً من التعليم الجامعي من الساسة فعلى الأقل تتولى الأمانات المتخصصة في الأحزاب الكائنة حشو هذا الأدب في أدمغة المنتسبين لها بالوظائف أو المنتسبين منها في الطرقات والندوات، إنه أدب جميعنا في حاجة إليه بلا استثناء. نورد قصة علي بن ابي طالب كرم الله وجهه في خلافه مع الخوارج وما وصلت إليه العلاقة بينهما من مفاصلة ثم مقاتلة كانت نهايتها مقتله رضى الله عنه على أيدي الخوارج وهي قصة تحمل معنى كبيراً في تفسير أدب الخلاف بين الناس حكاماً ومحكومين. فقد سئل عنهم، أكفارٌ هم؟ قال إنهم من الكفر فروا، أمنافقون هم؟ قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً وهم يذكرون الله كثيراً ثم قال قولته المشهورة «ليس من طلب الحق فاخطأه كمن طلب الباطل فأدركه». من الظواهر السالبة والمحبطة جداً في ساحاتنا السياسية فقدان أدب الخلاف.. وللعجب داخل البيت الحزبي الواحد هذا فضلاً عن الخلاف بين الأحزاب، هناك اختلافات تتبعها تطاولات فوق حدود الأدب التنظيمي الحزبي أو الفكري، تطاولات وتجاوزات طالت حتى القادة أنفسهم فما يفعلونه أو يقولونه أو يحرضون عليه أفقدهم «أي الزعامات» الاحترام العام وجعل الاحترام الخاص لهم محل تشكيك، إذ بعضهم يجاهر بما لم ير وما لم يسمع، لقد عجزت القيادات في نفسها وفيما بينها عن إيجاد المناخ المناسب للحوار الهادف وحرية التعبير وتحمل وجهات نظر الآخرين وبالتالي غاب أدب الخلاف وغابت العفة والشفافية السياسية من الوجوه والألسن والأفعال. ساحتنا السياسية أيضاً ملأى بنوع دخيل من الخصام والعُهر السياسي الذي لم تألفه لا عين ولا أذن الشارع الطاهرة.. رصد للفشل ونشره على الملأ، تبخيس للنجاحات وإخفاؤها عن الأعين والاسماع، ترصد للإخفاقات الشخصية وجعلها وسيلة تدميرية للشخصية المعنية وهلمجرا من الأفعال والأقوال التي يندي لها الجبين خجلاً، وليت ذلك اقتصر على الداخل بل تجاوز الحدود حيث اصبحت المكايدة السياسية فوق مصلحة الوطن. يقول البعض إنها هي السياسة، لعبة قذرة والحق يقال إن النفوس صارت قذرة فاصطبغت سياسة النفوس بالقذارة وكل إناء بما فيه ينضح والغاية تبرر الوسيلة.. لقد غاب عن تربيتنا الثقافية والسياسية الإخلاص والصواب والاحترام اللذين يتبعهما التأثير المتبادل وإيجاد المناخ المناسب والحوار الهادف وحرية التعبير وتحمل وجهات نظر الآخرين. إذا سلمنا جدلاً أن أحزابنا التقليدية تعاني من الخواء الفكري والتكلس التنظيمي والترهل الإداري وهيمنة قدرة الزعيم الواحد على أقدار الأكثرية، مما جعلها تتردى حتى الآن في هاوية السقوط الذي بلا قرار! فهل المؤتمر الوطني بمعزل عن هذه العملية؟ هل قامت الإنقاذ بتوفير المناخ الصحي الذي يدفع عملية الحوار الفكري ثم السياسي بحيث تتحقق في خاتمة المطاف تطلعات الأمة وخلق المشاركة العملية لكل المجاميع السياسية في بناء المستقبل؟ هل أرسى الحزب الرائد قواعد أدب الخلاف و تربت عليه القيادات بمختلف درجاتها ام أن الأوائل تنكبوا الطريق وآداب الطريق والتي منها أدب الحوار وأدب الخلاف؟ قطعاً ليس المجال هنا للإجابة التفصيلية عن كل هذه التساؤلات، فلدينا البيان بالعمل من خلال تصفح تاريخ أكثر من عقدين للسيرة السياسية سواء للمؤتمر الوطني أو الأحزاب الأخرى. الشارع العام بعد المفاصلة التاريخية التي قسمت الحركة الإسلامية ذهل وتعجب من تغيب أدب الحوار والخلاف معاً واتكأ المعارضون على رصيف الأحلام وقد تحقق حلمهم أو كان في خلخلة هذا الجسم المتماسك، لقد بانت العورات والعيوب السياسية وغيرها وتصيدوها وامتلأت بطونهم وعقولهم بها وتقيأوها انَّى وكيف شاءوا. لقد قاد الفهم الخطأ إلى فساد في النوايا الذي أدى إلى سقوط المقاصد النبيلة، وهذا بدوره أدى إلى انهيار الأخلاق وأول المتأثرين بذلك الانهيار هي جملة الآداب المطلقة. زعاماتنا الحزبية قديمها وجديدها موقعها القيادي ومكانتها الآن على المحك الأخلاقي أمام المجتمع، أن يخطيء الصغار ويصلحهم أو يؤدبهم الكبار ذلك هو المعتاد عليه، أما أن يخطيء الكبار الزعماء ويسقطون هم أنفسهم في أتون معركة الخلافات والتهديدات والتعري السياسي، فذلك دليل على أن نظامنا الحزبي وآدابه قد تغيرت وتغبرت وتحتاج لوقفة ومراجعة وربما لتحديد معايير التسلق لسلم القيادة وتحمل المسؤولية الأخلاقية التاريخية في بلد أحزابه ترهلت تنظيماتها وتحتاج إلى إعادة تماسك، في بلد زعاماته تفلتت ألسنتها وتحتاج إلى عقل يتحكم في نطق اللسان، في بلد الناس تخطب وده، وبعض قادته وده وتحنانه لمن أعرض عن وده. وأخيراً فإن للسلطة الرابعة- هذه الآلة الضخمة التي تدير الحروب والسياسات معاً- دوراً كبيراً وعظيماً في نشر ثقافة الخلاف في باب عرض الرأي والرأي الآخر وتوجيه الجميع حاكماً ومحكومين إلى جادة الطريق «طبعاً هذا قد لا ينطبق على الصحافة الحزبية» ليس بين الساسة فحسب بل بين مكونات المجتمع الأخرى خاصة المهنية.. أما أدب الخلاف فذاك ما ننتظر أن تعمل به قياداتنا الكبيرة والوسيطة والصغيرة وعليهم أن يدركوا إن هم تمادوا ولم يتعافوا، فإنما ذلك مرض أو تمارض دواءه عند الشعب.. والقاعدة أن لا تتمارضوا فتمرضوا فتموتوا، عافانا الله وإياكم جميعاً وأعادنا للأدب والتأدب وأن نحسن الظن في بعضنا البعض ونخلص في الطلب، فاذا ضللنا الطريق فقد اخطأنا وعلينا أن نتوب ونؤوب وكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولنا في قصة سيدنا علي بن ابي طالب العبرة فريق ركن