في بدايات العشر الأواخر من رمضان، اتصلت بدكتور الفاتح محمد سعيد بعد مطالعتي لخبر نشرته عدد من الصحف عن «طرده الصحافيين» إثر لقاء للجنة الصحة والبيئة التي يرأسها في المجلس الوطني بمستشفى الخرطوم. اتصلت به مستغرباً، بل مستبشعاً، ذلك التصرف الذي حمله الخبر، خصوصاً لمعرفتي الحميمة واللصيقة بدكتور الفاتح الذي تجمعني به صلة رحم ومودة وصداقة قديمة. فرأى الرجل، بعد أن شرح لي وقائع ما جرى أن يكون رده مكتوباً، فرحبت بالفكرة. لكن يبدو أنه فضل أن يتوسع في الرد بأكثر مما يتصل بالواقعة المذكورة، حتى يطرح على الرأي العام بعض رؤاه حول مستقبل السودان برمته، فانطلق من «إضاءة» لنا حول مذكرة مجموعة الدستور التي تعمل في إطار «مركز الأيام للدراسات» لتوضيح وجهة نظره حول كيف يجب أن يحكم السودان، قبل الرد على الاتهام الذي طاله بأنه يحمل موقفاً معادياً للصحافة.. ولضيق المساحة اضطررنا لنشر ما كتب في حلقتين، فإلى الحلقة الثانية: أخي النعمان، صاحب الإضاءات.. قضايا الدستور شغلتني عن الموضوع الأساسي الذي بسببه كتبت لك. أشكر لك اتصالك بي تلفونياً معاتباً ومتسائلاً كيف لي أن أطرد الصحافيين من تغطية نشاط لجنة الصحة والبيئة والسكان في مستشفى الخرطوم. أخي الكريم، أظنك تعلم كيف هي قناعتي وإيماني بأن الصحافة والإعلام هي «السلطة الرابعة» التي فرضت وجودها كسلطة.. أنا لم أطرد صحافياً قط، إنما هناك إلتباس حدث في ذلك الإجتماع الذي ضمني مع بعض الإخوة من الزملاء الأطباء، وطلبت من الصحافيين أن نجتمع لوحدنا- كأطباء- لمناقشة قضايا مهنية. ويمكن لهم تغطية الزيارة لمستشفى الخرطوم بعد ذلك، المهم لم يحدث ذلك. وقناعتي أن الدولة العصرية التي نتطلع لها ونعمل من أجلها هي دولة مؤسسات، والحكم الراشد في كل دساتير الدول الديمقراطية أقر الفصل بين السلطات، السلطة التشريعية المناط بها التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية التي تضع السياسات وتنفذها، ثم السلطة القضائية المستقلة لتفصل في المنازعات بين أفراد المجتمع، ثم يأتي دور المحكمة الدستورية للفصل في قضايا المنازعات الدستورية بين السلطات السابقة. أما في الدولة الحديثة ومع التطور حدثت تعقيدات في الأداء التنفيذي ومع التطور وتقدم التقنية تعددت نظم وقوانين ولوائح الخدمة المدنية التي قد تتقاطع مع الأداء السياسي للدستوريين، وكان لابد من صحافة وإعلام لتحتل موقع «السلطة الرابعة»، وأحسب أنها الأهم وذات الدور الأخطر في كل نظام ديمقراطي. في 1974 - كما تعلم- أدت قضية ووترغيت في أمريكا لاستقالة الرئيس، وهذا تم بتسليط الضوء من جانب الصحافة على أداء الرئيس الأمريكي نكسون. أخي صاحب «الإضاءات» لهذا اعتقد أنك اخترت هذا الاسم عنواناً لعمودك الراتب المقروء بهدف تسليط الضوء على مكامن الضعف في الأداء التنفيذي أو التشريعي وقضاياالمجتمع، فالصحافة مهمة لمراجعة الأداء التنفيذي كله. الحكومة تضع سياسات وتنفذ برامج متوافقة مع قوانين ونظم تشرعها السلطة التشريعية، ونتيجة لهذه السياسات والبرامج نجد الفعل السياسي يمشي بين الناس ويحتاج المجتمع لمتابعة أثر هذه السياسات إيجاباً أو سلباً، وأولُ من يُقيِّم ويقرأ أثر الفعل السياسي هي الصحافة.. من هنا يتضح دورها الرائد في الرقابة وتدخل ضمن آليات المراجعة والتقييم ثم التقويم للأداء كله. أخي النعمان.. أنعم الله عليك.. الفكرة أن التنمية في وطن شاسع ومتنوع الأعراق والثقافات كالسودان- حباه الله بالموارد المتميزة- هي أن لديه الفرصة لتحقيق نهضة كبرى في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالقضية كلها- عندي- لا تخرج عن أمرين: إما مشاكل تقعد بنا عن تحقيق الأهداف المرجوة، أو فرصة متاحة لنا علينا اهتبالها لكي نحقق التنمية المستدامة التي تُثمر نهضة سياسية واقتصادية واجتماعية. أما المشاكل فلا بد من تحديد حجمها وأسبابها وكيفية تجاوزها، أما «الفرصة» فلا بد من معرفة كيفية استخدامها بذكاء للاستفادة القصوى منها وبكفاءة عالية، لتحقيق الأهداف.. وهذا رسم بياني يلخص المسألة ( مستوى الأداء لتحقيق الأهداف المرجوة- فرصة- مشكل- الفترة الزمنية لإحداث التغيير) (معادلة أخيرة):: شعب له تطلعات ورغبات في الحياة الحرة الكريمة تُعبر عنها قواه الحية ومنظمات المجتمع المدني من أحزاب ومجموعات ضغط، ورأي عام تصنعه الصحافة والإعلام. الشعب وتطلعات المجتمع: الشعب (منظمات مجتمع مدني أحزاب، قوى حديثة، نقابات، مجموعات ضغط)- تطلعات يعبر عنها برأي عام- الحكومة (الحكومة جهاز تنفيذي، مؤسسة تشريعية، سلطة قضائية)- سياسات برامج- طموحات وتطلعات الشعب (فعل سياسي ذو مردود اقتصادي واجتماعي «سلام أمن استقرار تنمية مستدامة») آلية استرجاع يدخل فيها الصحافة وأجهرة صناعة الرأي العام (السلطة الرابعة) Feed mechanism ربما يكون من المناسب في ختام حديثي هذا الاستشهاد بأبيات من أمير الشعراء أحمد شوقي قالها في الصحافة بمناسبة تكوين نقابة الصحافيين المصريين، عادت إلى مقدمة الذاكرة عندما طالعت تلك الأخبار غير الدقيقة التي تحدثت عن «طردي للصحافيين» وصورتني معادياً للصحافة.. يا سبحان الله! يقول شوقي: لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصُحف لسان البلاد ونبض العباد وكهف الحقوق وحرب الجُنف تسير مسير الضحى في البلاد إذا العلم مزّق فيها السُدف وتمشي تُعلم في أمة كثيرة من لا يخط الألف فيا فتية الصحف صبراً إذا نبا الرزق فيها بكم واختلف حتى يقول: فإن تسألوا مكان الفنون؟ فكم شرف فوق هذا الشرف حمدنا بلاءكم في النضال وأمس حمدنا بلاء السلف ومن نسي الفضل للسابقين فما عرف الفضل فيما عرف أليس إليهم صلاح البناء إذا ما سما بالغُرف