ü عاش السودانيون منذ التاسع من يوليو الماضي، تاريخ الانفصال، وحتى اليوم، بالرغم من سوء أحوالهم وتردي أوضاعهم و «منقلبهم» الجديد الذي رآه البعض «نعمة» ورآه أغلبهم «نقمة» في جدل عقيم حول تشكيل الحكومة الجديدة لمواجهة هذا «المنقلب» أو المستجدات التي فرّخها الانفصال، ولم يفتح الله على ساسة البلاد حكومة ومعارضة بمخرج ملائم أو اتفاق ووفاق على ما يجب أن تكون عليه الحكومة الجديدة. ü تعددت الاجتهادات وتباينت بتعدد وتباين الأجندة والرؤى التي يحملها كل فريق، فالمعارضون على تباين رؤاهم ومطالبهم يرون أن في الانفصال تطوراً خطيراً يضع البلاد برمتها- أو ما تبقى من السودان- في وضع لا يسمح باستمرار صيغة الحكم السابقة للانفصال «دستورياً وسياسياً» على ما كانت عليه وينزع الشرعية عن تلك الصيغة السابقة، ويُلغي عملياً نتائج الانتخابات السابقة- انتخابات أبريل 2010- ويستدعي تلقائياً إنتاج صيغة سياسية «قومية» أو «انتقالية» لمواجهة الوضع الجديد. ü والحكومة- حكومة الإنقاذ- التي تبدي «الأسف» إعلامياً على الانفصال- إلا أنها عملياً- وكما يصرح بعض رموزها- ترى أن الانفصال لا يعني أكثر من ذهاب الجنوب إلى حيث أراد أهله وحرر البلاد من مشكلة تطاولت وأقعدت السودان عن النماء والتقدم، وتبدي استعداداً لبعض التغيير الذي يستوعب بعض المعارضين في إطار برنامجها السياسي الذي رفعته خلال الانتخابات والذي سارت عليه منذ ميلادها في الثلاثين من يونيو 1989- قبل أكثر من عشرين عاماً، وأن كل المطلوب هو تشكيل «حكومة عريضة» يلتحق بها من رضي من المعارضين بذلك البرنامج، مع تعديلات طفيفة تتصل بحجم الحكومة وإعادة هيكلة بعض الوزارات والمصالح ولا تمس الجوهر، جوهر الحكم المتمثل في مؤسساته الرئاسية والتشريعية والتنفيذية. ü على مدى شهور طويلة تشكلت اللجان بين الحكومة وممثلي بعض أحزاب المعارضة، خصوصاً حزب الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي الأصل، لمناقشة التغيير المطلوب، وعلى الضفة الأخرى كان المعارضون الآخرون في «قوى الإجماع الوطني» يجتمعون وينفضون ويعلنون عن ضرورة أن يكون التغيير «جذرياً وجوهرياً» يفتح الطريق لمسار جديد، أساسه التحول الديمقراطي الكامل وتأمين الحريات العامة ويمهد لانتخابات جديدة ونقلة نوعية في الحياة السياسية تخرج البلاد من حكم الحزب الواحد، أو «الصيغة الإنقاذية» إلى صيغة ديمقراطية كاملة الدسم. ü الآن، ومن خلال المواقف المعلنة والتصريحات المنشورة، أصبح واضحاً لكل ذي عينين أنه لا شيء قد تحقق من ذلك الحوار أو الجدل الطويل الذي استهلك شهوراً عديدة بين الحكومة و«الأمة» و «الاتحادي»، وكان آخر تلك المواقف والتصريحات ما أعلنه زعيم حزب الأمة الصادق المهدي في خطبة الجمعة بمسجد الإمام عبد الرحمن بالهجرة، والذي نعى فيه عملياً «إمكانية الوفاق» مع الحكومة في ضوء إصرارها المتمترس في أجندتها المعتادة والطلب من المعارضين «الالتحاق» بسفينة الحكم كما هي، مع تنبيهه وتعداده للمخاطر التي تنتظر البلاد وتشرف على الانزلاق في هُوتها مع اشتعال الحروبات في جنوب كردفان وأبيي وجنوب النيل الأزرق ودارفور التي رأى أن «اتفاق الدوحة» لن يمثل حلاً حقيقياً لأزمتها في غياب حملة السلاح الآخرين، وفي ضوء الأزمة الاقتصادية المتصاعدة والمرشحة للتصاعد بعد خروج بترول الجنوب من موارد الخزينة العامة. أما الحزب الآخر الكبير «الاتحادي الأصل» فهو- كما يقال- يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويعيش حالة من الصراع الداخلي، ولكن الأرجح كما هو ظاهر حتى الآن أنه لن يشارك في «الحكومة العريضة» المقترحة من جانب الحكومة، وإن بدا أن بعض كوادره على استعداد لمثل هذه المشاركة حتى لو كلفهم ذلك غضب قيادة الحزب أو الانفصال عنه. ü المهدي لا يرفض المشاركة وفق ما يدعوه ب«الأجندة القومية» والتي تعني إعادة النظر في الواقع السياسي برمته والتوافق على تحول كبير ينتقل بالبلاد إلى مرحلة جديدة ويعيد هيكلة «الدولة» برمتها وليس «الحكومة»، يريد التوافق على إعادة بناء القوات المسلحة والشرطة وأجهزة الأمن والخدمة المدنية على أسس قومية وغير منحازة لأجندة وسياسات حزب من الأحزاب وإعادة النظر في البناء السياسي، بحيث تكون من مهام «الحكومية القومية» التي يقترحها، بالإضافة إلى إعادة النظر في الأوضاع الاقتصادية عبر مؤتمر قومي اقتصادي لمواجهة الأزمة الراهنة، أن تحضِّر البلاد لانتخابات جديدة حرة ونزيهة تعيد رسم الخريطة السياسية وتقطع مع سياسات الحزب الواحد الحاكم، وباختصار فهو- كما يقول- يريد الانتقال من «دولة الحزب» إلى «دولة الوطن»، ويرى في مثل هذا التوافق الطريق السالك الوحيد لإقناع قوى المعارضة الأخرى- المسالمة والمسلحة- للخروج بالبلاد من خطر الأزمات والحروبات والمواجهات التي يخشى أن تقود البلاد إلى التمزق والتشرذم والانقسامات الجديدة. ü الحكومة من جانبها لاتوافق ولا تستسيغ مثل هذا الطرح، إن أتى من المهدي أو الميرغني أو الترابي أو من أي من قادة الأحزاب الأخرى، وربما ترى فيه تهويلاً أو تخويفاً أو تهويشاً من جانب هؤلاء لإجبارها لمجاراتهم في تنفيذ أجندتهم، وتبدي استعداداً للاستمرار بسياساتها وأجندتها المعهودة والمعتادة مهما اشتدت الأزمات وتقاطرت عليها الابتلاءات، ويتبدى هذا في ارتداء بعض رموزها ومشايعيها للبزَّات العسكرية وتوجههم إلى ميادين القتال في النيل الأزرق وفي دعوات التجييش للشباب استعداداً للدفاع عن «العقيدة والوطن»، أي العودة إلى ما كان عليه الحال في أيام الإنقاذ الأولى في مطالع التسعينات. ü انطلاقاً من كل هذا الرصد والتوصيف للواقع السياسي الذي تعيشه البلاد، وواقع الجدل غير المنتج وغير المفيد بين الحكومة ومعارضيها، فإننا نقترح على الجميع التوقف عن الاستمرار في هذا الجدل الذي ملَّه الشعب وكره مجرد متابعة مخرجاته عبر وسائل الإعلام المقروءة أوالمسموعة والمشاهدة، وأن يقوم الحزب الحاكم بتشكيل حكومته الخاصة لتدير البلاد بالطريقة التي يحبها ويرضاها، وأن يذهب المعارضون إلى حال سبيلهم للعمل من أجل بناء أحزابهم ورصِّ صفوفها التي تعاني من التمزق والانقسامات، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.. وبالبلدي «زهجنا.. وفضوها سيرة»!