"منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    عثمان ميرغني يكتب: «منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود    مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تراجع المعارضة وتكريس استقطاب الشمال- الجنوب
الانتخابات السودانية 2010 (2)
نشر في الصحافة يوم 10 - 12 - 2010

صدرت هذه الدراسه فى سلسلة كراسات استراتيجية الصادرة عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام تحت رقم 211 لسنة 2010 .
حظيت الانتخابات السودانية التي أجريت في أبريل 2010 باهتمام واسع النطاق على المستويين الإقليمي والدولي، فضلا عن الاهتمام الداخلي غير المسبوق، حيث كانت بمثابة الشغل الشاغل لكل المواطنين وللقوى السياسية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، سواء في الشمال أو في الجنوب. هذا الاهتمام الخاص لم يكن مستغربا، إذ تعد هذه الانتخابات أول انتخابات تعددية ديمقراطية خلال أكثر من عشرين عاما، منذ وصول نظام الإنقاذ إلى السلطة عبر انقلاب 30 يونيو 1989، بالإضافة إلى الطبيعة الاستثنائية لهذه الانتخابات من حيث الاتساع والشمول، ومن حيث التوقيت، وكذلك من حيث الآثار المترتبة عليها، مما جعلها الأكثر أهمية في تاريخ الحياة السياسية في السودان منذ حصوله على الاستقلال في الأول من يناير عام 1956. فقد جرت هذه الانتخابات في لحظة حرجة وفاصلة فيما يتعلق ببنية الدولة السودانية وبحدود ترابها الوطني، وبطبيعة النظام السياسي القائم وآلياته ومصدر شرعيته، كما تأتى قبل بضعة أشهر فقط من استفتاء جنوب السودان على حق تقرير المصير.
1- «تحالف جوبا»: تباينات حالت دون تطبيق إستراتيجية موحدة حيال الانتخابات
كانت أحزاب المعارضة الرئيسية، ممثلة في حزب الأمة القومي، والأمة، والإصلاح والتجديد، والحزب الشيوعي، وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة الترابي، بالإضافة إلى بعض أحزاب الجنوب، قد اجتمعت بدعوة من الحركة الشعبية لتحرير السودان في مدينة جوبا عاصمة الإقليم الجنوبي، في الفترة من 26 إلى 30 سبتمبر 2009، وأصدرت إعلانا سياسيا طالبت فيه حزب المؤتمر الوطني بضرورة الاستجابة لمجموعة من المطالب السياسية تعلقت بقضية الحريات، وأزمة دارفور، واستعادة الديمقراطية، وحددت لذلك سقفا زمنيا ينتهي بنهاية ديسمبر 2009، وأنه في حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب فإنها ستضطر للنزول إلى الشارع والدعوة إلى العصيان المدني.
وقد نشأ عن مؤتمر جوبا ما عرف باسم «تحالف الإجماع الوطني» أو «أحزاب إعلان جوبا»، وسعت هذه الأحزاب إلى التنسيق فيما بينها لتطبيق إستراتيجية انتخابية واحدة تحول دون فوز عمر البشير، مرشح حزب المؤتمر الوطني، وذلك باعتبار أن موقع رئيس الجمهورية هو الموقع الأهم في هذه الانتخابات، وأنه الأكثر تأثيرا في مجمل العملية السياسية. وكان من المستهدف إعلان مرشح واحد تتكاتف حوله قوى تحالف الإجماع الوطني، ولكن هذه القوى، وبعد عدة اجتماعات، فشلت في الاتفاق على مرشح واحد، بسبب التباين الواضح بين مكونات هذا التحالف، لذا تم العدول عن هذا الهدف، إلى إستراتيجية أخرى بديلة طرحها الدكتور حسن الترابي، تقضى بأن يتقدم كل حزب معارض بمرشحه الخاص، وأن يتم خوض معركة الانتخابات الرئاسية بهدف تشتيت الأصوات في الجولة الأولى بما يحول دون فوز البشير، خاصة أن الفوز في الجولة الأولى يتطلب حصول المرشح على خمسين في المائة من الأصوات الصحيحة + صوت واحد على الأقل، على أن تتكتل كل قوى التحالف، بجانب الأصوات الاحتجاجية التي لا ترغب في استمرار حكم البشير، خلف مرشح المعارضة في جولة الإعادة، وبذلك تصبح هناك فرصة معقولة لإسقاط البشير.
على هذا الأساس، انخرطت قوى تحالف جوبا في العملية الانتخابية بمرشحيها الرئاسيين، وكذلك على المستويات الأخرى البرلمانية والتنفيذية، وإن كان التركيز الإعلامي الأكبر قد بقى منصبا على المرشحين الرئاسيين، دون أن ينفي كل ذلك استمرار هذه القوى في المطالبة بإجراء تعديلات واسعة على الأطر المنظمة لإجراء هذه الانتخابات.
والملاحظة الأساسية هنا أن العدد الأكبر من القوى السياسية التي أشرنا إليها، بما في ذلك الحركة الشعبية، قد طرحت مرشحين ينتمون إلى قيادات الصف الثاني، فيما عدا حزبي الأمة القومي والشيوعي، الأمر الذي يشير إلى عدم وجود اهتمام كبير بالتنافس على موقع الرئاسة بسبب انصراف هذه الأحزاب إلى أهداف أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها من قضية الانتخابات.
على سبيل المثال، فقد ظل الاستفتاء على حق تقرير المصير هو القضية المركزية بالنسبة للحركة الشعبية، ورغم إعلانها عن نيتها، إبان مؤتمر جوبا، إقامة تحالف عريض لمواجهة حزب المؤتمر الوطني، إلا أن هذا التحالف سرعان ما فقد أهميته بالنسبة لها بعد أن حصلت على مطالبها الأساسية فيما يتعلق بالقانون المنظم للاستفتاء على حق تقرير المصير، والذي تم تمريره في البرلمان في نهاية ديسمبر 2009 بعد شد وجذب ومناورات عدة بين الطرفين. فقد تبع صدور هذا القانون أن عدلت الحركة من مواقفها السياسية، فلم تعد تهتم كثيرا بمجريات العملية الانتخابية وإن ظلت تدعم مرشحها للرئاسة. وقد كان واضحا للمراقبين أن هذه الانتخابات لا تعنى الحركة الشعبية إلا من زاوية واحدة باعتبارها خطوة أساسية لابد منها قبل تطبيق حق تقرير المصير، ولتفريغ أي حجة قانونية لحزب المؤتمر، أو لأي جهة أخرى تريد تعطيل الاستفتاء، ولذلك لم ترشح الحركة زعيمها سلفا كير الذي ترشح لشغل منصب رئيس حكومة إقليم الجنوب، تمهيدا ليصبح أول رئيس للدولة الجديدة إذا ما اختار الجنوبيون الانفصال في الاستفتاء. كما يمكن ملاحظة أن كل من رياك مشار، نائب رئيس الحركة، وباقان أموم، أمينها العام، لم يتقدما للترشيح أيضا للسبب نفسه، الأمر الذي يشير إلى وجود استعداد ونية فعلية للتوجه نحو الانفصال.
وفي هذا السياق، فسر كثيرون ترشيح الحركة لياسر عرمان على أنه دليل جديد على توجهها غير المعلن نحو الانفصال، حيث تعرف الحركة جيدا أنه لن يفوز في هذه الانتخابات، وبالتالي فإن خسارته لا تعنيها كثيرا. كما أنها من خلال ترشيحه- وبالتالي الخروج من معركة الرئاسة- تستطيع أن تفرض ضغوطا إضافية على حزب المؤتمر بطريقة تمكنها من المساومة للحصول على مكاسب وتنازلات مستقبلية. ومصدر الضغط في ترشيح ياسر عرمان هو أنها سوف تضعف فرص فوز الرئيس البشير من الجولة الأولى، الأمر الذي كان يراهن عليه حزب المؤتمر كثيرا. وفي المقابل، لم يطرح حزب المؤتمر مرشحا منافسا لسلفا كير على موقع رئيس حكومة الجنوب، وكان يأمل أن تعامله الحركة الشعبية بالمثل، إلا أنه فوجئ بترشيحها لياسر عرمان. وقد أشارت بعض التقارير إلى عدة محاولات ومساع قام بها حزب المؤتمر لدى الحركة الشعبية لإقناعها بسحب مرشحها، إلا أنها امتنعت عن ذلك إلى أن قامت بسحبه في نهاية مارس 2010، أي قبل بدء عملية الاقتراع بأيام قليلة بعد أن كانت حملته الانتخابية الضخمة قد قطعت شوطا طويلا، وبعد أن كان عرمان قد قدم نفسه فيها باعتباره مرشح «السودان الجديد»، وأنه الأمل الأخير للحفاظ على الوحدة.
أما قيادات الأحزاب الأخرى، مثل الاتحادي، وحزب المؤتمر الشعبي، فقد كانت تدرك سلفا أن حظوظها في الفوز برئاسة الجمهورية قليلة ولا تريد أن تفقد هيبتها، كما هو الحال بالنسبة للدكتور حسن الترابي مرشح حزب المؤتمر الشعبى، أو أنها تريد أن تتخذ موقفا وسطا كما هو الحال بالنسبة للحزب الاتحادي الديمقراطي/ الأصل ومرشحه السيد محمد عثمان الميرغنى، والذي لا يريد أن يؤيد عمر البشير بشكل سافر، ولا يريد أيضا أن يعارضه بقوة، في انتظار نتائج المفاوضات أو التفاهمات التي كان يجريها مع قادة حزب المؤتمر للوصول إلى صفقات أو تفاهمات محددة. وقد انسحب هذا المسلك على موقف الحزب الاتحادي بشكل عام، والذي التحق بتحالف جوبا في وقت متأخر، ولم يكن من القوى التي أسست هذا التحالف في سبتمبر 2009. ورغم مشاركة الحزب في قرار المقاطعة الشاملة للانتخابات في مطلع أبريل 2010، إلا أنه تراجع عن هذه المقاطعة في اليوم التالي مباشرة وأعاد مرشحة الرئاسي إلى المنافسة، كما خاض الانتخابات في كل مستوياتها. وقد استمر الجدل والتضارب في تصريحات قادة الحزب حول بديلي المقاطعة أو المشاركة حتى بعد بدء عملية الاقتراع، إلى أن حسم السيد محمد عثمان الموقف بقولة «إن موقف الحزب سوف يتحدد بعد انتهاء عملية الانتخابات»!!.
وهكذا، فإن «تحالف أحزاب جوبا» لم يكن متجانسا، سواء من حيث طبيعة القوى المنضوية فيه، أو من حيث الحسابات السياسية الخاصة لكل طرف، أو من حيث أو طريقة عملها أو خطابها السياسي؛ فلم يكن يجمع بين أعضاء هذا التحالف سوى خصومتهم المشتركة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، والسعي لإزاحته من السلطة. ولم يضمن هذا التوافق وصول أطراف التحالف إلى إستراتيجية محددة للتعامل مع هذه الانتخابات، واكتفت بإستراتيجية بديلة، اقترحها الترابي، تقوم على تشتيت الأصوات، على نحو ما أشير إليه سابقا.
معادلة المعارضة كانت تقوم على إدراكها لسعى حزب المؤتمر الوطني إلى تمديد بقائه في الحكم لفترة أخرى، ولكن عبر شرعية ديمقراطية يعترف بها المجتمع الدولي، على نحو قد يقوى موقف النظام في المحافل الإقليمية والدولية، كما قد يضعف إلى حد كبير موقف المحكمة الجنائية الدولية من الرئيس البشير، على الأقل من الناحية السياسية؛ إذ لا يستقيم اتهام شخص بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد شعبه، في حين أن هذا الشعب هو الذي يعيده إلى السلطة عبر انتخابات مراقبة دوليا.
2- تحفظات المعارضة على العملية الانتخابية
وبعد بدء خطوات العملية الانتخابية فعلا من يناير 2010، وحتى تقديم المرشحين لأوراقهم وبدء الحملات الانتخابية في كل أنحاء البلاد، لم تكن قوى تحالف جوبا قد استقرت على موقفها النهائي من الانتخابات، إذ ظلت تطالب بمجموعة من الإصلاحات تتعلق بضبط السجلات الانتخابية، ووضع أسقف للإنفاق المالي، وإتاحة حصص عادلة في الإعلام. كما وجهت انتقادات حادة لمواقف وقرارات المفوضية المستقلة للانتخابات، بعد أن اعتبرتها موالية أو متواطئة مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم. واعتبرت هذه الأحزاب أن التزوير واقع لا محالة بسبب عدم صحة التعداد السكاني، والتدخل في ترسيم الدوائر لصالح الإستراتيجية الانتخابية لحزب المؤتمر، كما ركزت بشدة على المطلب الخاص بتأجيل الانتخابات إلى نوفمبر 2010 حتى يمكن تفادى هذه الأخطاء وغيرها. وبشكل عام، علًقت المعارضة مشاركتها على الاستجابة لهذه المطالب، وراهنت على تعظيم قدرتها على الضغط عبر تلويحها بمقاطعة الانتخابات من خلال موقف مشترك.
قد طرحت المعارضة من جانبها عددا من التحفظات على هذه الانتخابات، تمثل أهمها في ملاحظاتها على عملية تسجيل الناخبين، وغيرها من الخطوات الإجرائية الأخرى، حيث أبدت اعتراضها على تشكيل اللجان العليا للانتخابات على مستوى الولايات، بسبب انتماء معظم عناصرها لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وقيام بعض أنصار الحزب بأخذ «إشعارات التسجيل» من بعض المواطنين البسطاء، الأمر الذي يعنى إمكانية استخدامها بطريقة ما في مرحلة الاقتراع. كما لم تبد لجان الانتخابات بالولايات أي اعتراض على مرشحي المؤتمر الوطني الذي بدأوا حملاتهم الانتخابية قبل موعدها الرسمي.
غير أن الاعتراضات الأهم تمثلت في تلك التي تعلقت بسماح مفوضية الانتخابات للقوات المسلحة بالتسجيل في أماكن العمل (المواقع العسكرية)، أو في أماكن خاصة تم حشدهم للتسجيل بها، الأمر الذي كان يعني من وجهة نظر المعارضة إمكانية تسجيل هؤلاء في أكثر من دائرة انتخابية، الأمر الذي يعني بدوره إمكانية تكرار عملية التصويت ذاتها. يضاف إلى ذلك التحفظ على تشكيل لجان الانتخابات بدول المهجر، والتي تشكلت من الممثلين الدبلوماسيين (القناصل)، وموظفي سفارات السودان بتلك الدول؛ حيث تخوفت المعارضة هنا من إمكانية انحياز هؤلاء الموظفين للحزب الحاكم. أضف إلى ذلك، اعتراضها على طبع بعض بطاقات التصويت داخل مطبعة العملة بالسودان، وطريقة توزيع الحصص في وسائل الإعلام، حيث قدرت المعارضة أن الدعاية للرئيس البشير تحتل تقريبا ثلاثة أرباع وقت البث الإعلامي، والخلط المتعمد بين أنشطة رئيس الجمهورية باعتباره رئيسا للبلاد وبين حملته الدعائية كمرشح رئاسي.
كما أثارت المعارضة مشكلة عدم الدقة في عملية تسجيل الناخبين، والتي زادت في مجملها حسب الأرقام المعلنة عن 80% من إجمالي من لهم حق التصويت طبقا للإحصاء السكاني الأخير، فقد زادت أعداد المسجلين في كشوف الانتخابات في بعض الولايات عن الأعداد الكلية لمن يحق لهم التصويت في هذه الولايات، حيث زادت في ست ولايات جنوبية بأكثر من 100% مقارنة بنتيجة التعداد (أقلها غرب الاستوائية 104%، وأعلاها ولاية الوحدة التي بلغت 178%)(3).
تحدثت المعارضة أيضا عن بعض الصعوبات الأمنية التي أعاقت التسجيل في عشرة دوائر جغرافية في ولايتي جنوب وغرب دارفور، الأمر الذي اتخذه البعض مبررا للمطالبة بتأجيل الانتخابات إلى حين توقيع اتفاق سلام دارفور بحيث يكون مشمولا بالكامل في العملية الانتخابية، بالإضافة إلى المطالبة بتغيير قانون الأمن الوطني، مع ملاحظة أن مواقف المعارضة اتسمت حيال مسألة التأجيل بالتردد والتباين، ففي الوقت الذي رفض فيه حزب المؤتمر تأجيل الانتخابات بشكل كامل لحين توقيع اتفاق سلام دارفور، بالإضافة إلى رفض مفوضية الانتخابات، فقد اتخذت الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشريك الآخر في حكومة الوحدة الوطنية - موقفا مغايرا؛ فالحركة الشعبية لم تكن متحمسة لمطلب تأجيل الانتخابات لخشيتها من تأثير ذلك على الموعد المحدد للاستفتاء على حق تقرير المصير، ولكن الحركة عادت لتعدل موقفها بعد ذلك، ففي تصريحات وردت على لسان الفريق سلفا كير أعلنت الحركة أنها لا تمانع من التأجيل بشرط ألا يؤدى إلى تأخير موعد الاستفتاء، الذي وصفه سلفا كير بأنه موعد مقدس لا يجب تأجيله أو إعادة النظر فيه.
3- استمرار حالة التردد والارتباك داخل المعارضة بشأن المشاركة في الانتخابات
بالإضافة إلى فشل «تحالف جوبا» في الاتفاق على إستراتيجية موحدة تجاه الانتخابات، مقابل الاتفاق على طرح كل طرف لمرشحيه في هذه الانتخابات بشكل مستقل عن باقي الأطراف، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية، إلى حين انتظار الجولة الثانية، فقد ظلت هناك حالة من الارتباك والتردد على مستوى كل حزب، والمراوحة بين بديل المشاركة أو المقاطعة أو الدعوة إلى تأجيل الانتخابات برمتها. وقد ظلت هذه الحالة قائمة حتى مع اندماج هذه القوى في استحقاقات العملية الانتخابية ذاتها، بدءا من التغاضي عن مطالبها الخاصة بإصلاح الأطر المنظمة للانتخابات، ثم طرح مرشحيها في هذه الانتخابات بمستوياتها المختلفة، وبدء الحملات الانتخابية.
وقد عكس تردد أحزاب المعارضة، وافتقاد تحالفها لأهميته من الناحية العملية، عدم جاهزية هذه الأحزاب للتعامل مع الواقع السياسي الراهن. ويجد هذا التردد والاضطراب تفسيره - بالإضافة إلى عوامل أخرى- في وجود قناعة لدى هذه الأحزاب بأن حزب المؤتمر الوطني الحاكم سوف يفوز بهذه الانتخابات- بمختلف مستوياتها- بنسب مرتفعة، ومن ثم فإن مشاركتها قد تمنح حزب المؤتمر الشرعية التي يبتغيها من ناحية، وتعرض الصورة التاريخية لهذه الأحزاب لضربة قوية من ناحية أخرى. فحزب الأمة- على سبيل المثال - وهو الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات سنة 1986 (101 مقعد) ظل يطرح نفسه منذ انقلاب الإنقاذ وحتى الآن على أنه الحزب الأكبر وصاحب الحق الشرعي في الحكم، ولاشك أن تراجع نصيبه في هذه الانتخابات كان من شأنه أن يعرض صورته التاريخية لهزة كبيرة، وهي مسألة كانت متوقعة بالفعل خاصة في ضوء تراجع نفوذه التقليدي في دارفور، وتوالي الانشقاقات داخل الحزب خلال العقدين الماضيين، فضلا عن قلة التمويل وضعف التنظيم. ومن ثم، كان من الصعب أن يغامر الحزب بالتضحية بهذه الصورة التاريخية- بصرف النظر عن عوامل الضعف التي لحقت بها بالفعل- من خلال المشاركة في انتخابات غير مضمونة النتائج. كما كان من الصعب أيضا أن يقبل بفكرة المقاطعة ويظل على هامش الحياة السياسية فى فترة حساسة بالنسبة للتطور السياسي في السودان. ومما زاد من تردد حزب الأمة المواقف المنفردة التي اتخذتها الحركة الشعبية بسحب مرشحها الرئاسي ومقاطعة الانتخابات في إقليم دارفور دون تنسيق مع الأحزاب «المتحالفة» معها.
لقد ظلت أحزاب المعارضة على ترددها وعدم حسمها إلى نهاية مارس 2010، أي قبل موعد الاقتراع بنحو عشرة أيام. وقد برزت في ذلك التوقيت ثلاثة سيناريوهات حول عملية الانتخابات برمتها، أولها أن يتم إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 11 أبريل، وهو الموقف الذي ظل يتمسك به حزب المؤتمر الوطني، وثانيها تأجيلها إلى نوفمبر2010، وهو الموقف الذي دعت إليه أحزاب المعارضة، بحجة الانتظار لحين تنفيذ الحكومة لمطالب المعارضة حول الأطر المنظمة للانتخابات، والتي رفعتها إلى هيئة الرئاسة السودانية. وثالثها، الانسحاب من الانتخابات، وهو الموقف الذي كان يبدو غالبا داخل أحزاب التحالف، خاصة في حالة عدم الاستجابة لمطالبها السابقة.
غير أن المسألة لم تكن بالوضوح السابق لدى المعارضة، وعلى سبيل المثال، فقد أعلن الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، أن تأجيل الانتخابات فيه مصلحة للسودان، أما إذا رفضت هيئة الرئاسة مطالب المعارضة، فإن أنصاره يطالبون بخيار ثالث وهو خوض الانتخابات لتوثيق وتسجيل كل المخالفات والأساليب الفاسدة ومن ثم رفض نتائجها؛ بما يعني أن الحزب لم يربط بين سيناريو المقاطعة وعدم تنفيذ الحكومة لمطالب المعارضة. وعبر عن الموقف النهائي للحزب ما قاله المهدي: «نحن نرى أن حزبنا الآن خاض الانتخابات... وقطع شوطا كبيرا فيها يصعب معه الانسحاب منها.. وقمنا بتعبئة لا بأس بها.. لذلك فإن توجهنا أكبر نحو خوض الانتخابات.. وأنا أعتقد أن 50% نزاهة تكفينا لتحقيق نتائج باهرة.. ولكن الخوف من أن (في ظل) استمرار الأساليب الفاسدة سنحرم من النتائج التي نريدها»(4). لكنه استدرك قائلا: «حتى الآن ليس هناك إجماع حول ما ينبغي عمله».
واستباقا لاجتماعها التنسيقي مع أحزاب جوبا، قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان باتخاذ موقف منفرد أعلنت من خلاله في 31 مارس 2010 أنها سحبت مرشحها في انتخابات الرئاسة، كما أعلنت أنها ستقاطع الانتخابات على جميع المستويات في دارفور. وقال نائب رئيس الحركة، رياك ماشار، في تصريحات للصحفيين(5). إن القرار اتخذ بسبب استمرار الصراع في دارفور ومخالفات انتخابية، مضيفا أن الحركة ستقاطع أيضا الانتخابات على جميع المستويات في دارفور.
وقد أدى قرار الحركة الشعبية لتحرير السودان بسحب مرشحها في الانتخابات الرئاسية إلى خلط أوراق القوى السياسية المعارضة، الأمر الذي أدى إلى إطلاق موجة من اللقاءات المكوكية بين قيادات هذه القوى لتحديد قرارها النهائي من الانتخابات، تمخضت في النهاية عن موقف ملتبس عكس حالة التردد التي سيطرت على المعارضة. وقد عبر عن هذا الموقف البيان المعنون «تضامن مرشحي الرئاسة»(6)، والذي جاء فيه أن «تسعة من مرشحي الرئاسة أكدوا بالإجماع انحياز مفوضية الانتخابات، وتفشي الأساليب الفاسدة في هذه العملية الانتخابية، وأن التأجيل مطلوب لحل المشكلات التي تحول دون انتخابات عامة حرة ونزيهة، وأن ياسر عرمان أكد في الاجتماع أن موقفه من مقاطعة انتخابات الرئاسة قد جاء بناء على الحيثيات السابقة ولا رجعة فيه... وقرر أغلبية الحضور مقاطعة انتخابات الرئاسة مع استعدادهم لمراجعة الموقف إذا توافرت الشروط المطلوبة لنزاهة الانتخابات واستقلال المفوضية. وأبدى بعض الحاضرين أنهم رغم تأييدهم لما ورد أعلاه فإنهم سوف يخوضون الانتخابات». ولم يتضح من البيان معرفة المرشحين الذين قرروا المقاطعة، وإن كان البيان قد ذكر أن «هيئة تضامن مرشحي الرئاسة سوف تصدر لاحقا بيانا بأسماء الأشخاص وتحديد مواقفهم، علما أن التضامن سوف يستمر لكشف الأساليب الفاسدة».
وقد صرح السيد محمد عثمان الميرغني للصحفيين «إن موقف حزبه من المشاركة أو مقاطعة الانتخابات ما زال محل بحث»(7)، في حين أكد الترابي(8) «نريد أن ندخل الانتخابات حتى ولو كانت معيبة.. شيء خير من لا شيء» ، وأكد «أن هذه العيوب محتملة»، ومن بين تعبيراته التي تصب في الاتجاه ذاته «نحن الآن تمتعنا بحرية لا نريدها أن تتوقف». وحول العلاقة مع الحركة الشعبية، قال الترابي «إن الحركة الشعبية لم تخطر الأحزاب قبل إعلان موقفها الأخير».. و»إن بعض قياداتها تريد للمؤتمر الوطني أن يبقى بشكله الحالي حتى تشجع للانفصال، ولكن ما بيننا وبين الحركة لم ينبت، لأننا ننسق مع بعضنا البعض، ولسنا حزبا واحدا حتى لا يكون الاختلاف واردا». وعن تقديره للأوزان الانتخابية للأحزاب قال الترابي إن الأحزاب حُجبت عن قواعدها مدة طويلة ولا توجد علاقة ميكانيكية بينها وبين جمهورها.
وهكذا، بدأت تتحدد المواقف النهائية لأحزاب المعارضة، حيث حدد الترابي قبوله بخيار المشاركة، بينما أكد الحزب الشيوعي السوداني تمسكه بالمقاطعة الشاملة على كافة المستويات، في الوقت الذي عاد فيه الحزب الاتحادي إلى المراوغة في إعلان موقف واضح ونهائي، الأمر الذي انتهى به إلى المشاركة على كافة المستويات مثله في ذلك مثل حزب المؤتمر الشعبي. أما حزب الأمة فقد اتخذ موقفا مختلفا حيث عاد وأمهل المفوضية والنظام الحاكم أربعة أيَّام أخرى، تنتهي في 6 أبريل 2010، أي قبل الاقتراع بخمسة أيام فقط، للقبول بعدد من الشروط(9)، شملت تأجيل الانتخابات شهراً، وإصدار أمر جمهوري بتجميد العمل بالأحكام الأمنية حتى نهاية الانتخابات، ووضع الإعلام القومي تحت إشراف آلية قومية متفق عليها، ومساهمة الدَّولة في تمويل الحملة الانتخابيَّة للقوى السِّياسيَّة، ووضع سقف للإنفاق على الحملات الانتخابية، وحظر استعمال موارد الدَّولة الماديَّة والبشريَّة في الحملة الانتخابيَّة، وعدم الزَّج بالاستفتاء لتقرير المصير في المساجلات السِّياسيَّة، كونه من شروط السَّلام، وإزالة كافة الشِّعارات والملصقات التحريضيَّة والتكفيريَّة والتخوينيَّة، والالتزام بإشراك دارفور في الرئاسة والأجهزة التنفيذيَّة والتشريعيَّة عند إبرام اتفاق السَّلام، وتكوين مجلس دولة بالتراضي لتوسيع قاعدة التداول في الشَّأن الوطني، وإلزام المفوَّضيَّة بوضع ضوابط لنزاهة الاقتراع.
وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن موقف حزب الأمة قد اعتراه بعض الارتباك، حيث أشار البيان الصادر عن المكتب السياسي للحزب، والذي تلته السيدة سارة نقد الله، إلى أنه إذا لم تتم الاستجابة لمطالب الحزب فإنه سيقاطع الانتخابات بشكل شامل على كل مستوياتها، وأنه لن يعترف بنتائجها. ومع ذلك، فقد صرح الصادق المهدي بعد ذلك بيومين فقط بأنه يتعهد باحترام النتائج النهائية للانتخابات مهما كانت، وأشار إلى أن 90% من شروط الحزب قد تمت الاستجابة لها، فيما بدا أنه تمهيد لإصدار قرار بالمشاركة، إلا أن المفاجأة كانت صدور قرار نهائي للحزب بالمقاطعة الشاملة للانتخابات(10)، وهو القرار الذي جاء متأخرا يوما كاملا عن الموعد الذي سبق وحدده الحزب بسبب استمرار اجتماعات مكتبه السياسي ووجود اختلافات كبيرة في وجهات النظر داخل الحزب. كما تجدر الاشارة إلى أن قرار حزب الأمة جاء بعد يوم واحد من قرار الحركة الشعبية مقاطعة الانتخابات على جميع المستويات في شمال السودان بسبب ما وصفتها بانتهاكات خطيرة شابت العملية الانتخابية. وهكذا، جاء قرار الحزب متأخرا وبعد فترة طويلة من الارتباك والتردد، الأمر الذي أفقد الحزب الكثير من الأثر السياسي والإعلامي الذي كان يمكن أن يحدثه بهذا القرار. ورأى كثيرون أن هذا التردد لم يكن متناسبا مع حزب بحجم وخبرات حزب الأمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.