ظلت الأحزاب المعارضة تدعو إلى تكوين حكومة قومية كلما برزت أزمات سياسية أو تحديات كبيرة، كما كان الحال أيام قرار المحكمة الجنائية ضد الرئيس البشير، والمرحلة التي سبقت الانتخابات، ووصلت الأمور آنذاك بهذه الأحزاب إلى دعوة الشعب للخروج إلى الشارع العام، بحجة أن أمد الحكومة انتهى حسب تحديدات القانون، ولا بدّ من تكوين حكومة قومية تدير الانتخابات، كما قال القيادي في التحالف المعارض فاروق أبو عيسى وقتئذ للصحف، وقابلت الحكومة قوله بالرفض، ومع ذلك لم ينته الجدل حول إصرار الأحزاب المعارضة على تكوين هذه الحكومة، وربما يكون هناك جدل ونقاش في أوساط المؤتمر الوطني نفسه، وتباينٌ حول هذه الفكرة، على خلفية حديث أحد قيادييه الممسكين بالملفات الساخنة قبل الانتخابات الماضية لإحدى الفضائيات المحلية، عن إمكانية التباحث والحوار مع القوى السياسية في هذه الفكرة، بينما تحدث نائب رئيس الجمهورية؛ علي عثمان طه، قبل ذلك - حسب ما قيل - بمرونة؛ عمّا يُطرح حول قيام حكومة قومية، وصمها البعض بأنها إشارة إيجابية تجاهها، وبالمقابل هناك قيادات أخرى في ذات الحزب ترفض مجرد اقتراح هذه الحكومة، لأنها تعتقد - وفقاً لرؤية المراقبين - أن الحكومة القائمة فيها تمثيل مقدر للأحزاب والقوى السياسية الأخرى، أهَّلها أن تكون قومية، بجانب أنها قادرة على إدارة الأزمات التي تواجهها، وربما تعتبر هذه القيادات أن الدعوة إليها هي إحدى الآليات التي تستخدمها المعارضة لإسقاط الحكومة وتسلُّم السلطة. آخرون تحدثوا عن عدم وضوح رؤية هذه الحكومة أو تحديد ملامحها، إلا أن هذا الحديث يبدو أنه لم يقنع القوى المعارضة بالتراجع عن هذا الطرح، والدليل على ذلك أن الإمام الصادق المهدي اختار أن يتحدث في منتداه الشهري (الصحافة والسياسية) عن ضرورة قيام الحكومة القومية، وذهب إلى أكثر من ذلك حينما ربط هذا المطلب بخيارين طرحهما لأول مرة، وهما اعتزال السياسة، أو الانضمام إلى المجموعة المطالبة بإسقاط النظام، هذا الحديث وجد صدى واسعاً حاول فيه بعض الناس فهم العلاقة بين تكوين الحكومة وخياراته التي ربطها بها، بينما جاء الرد من الطرف الآخر (الحكومة) على لسان نائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون السياسية والتنظيمية؛ د. نافع علي نافع، رافضاً هذا الخيار، حيث قطع بعدم وجود أي اتجاه لتكوين حكومة قومية، ودعا الإمام الصادق إلى اللجوء لأحد الخيارين الآخرين، لكن هذا التصريح أدى إلى ازدياد مساحة الاختلاف، وقاد إلى ارتفاع نبرة التصعيد، أو كما وَضَحَ من حديث نائب رئيس حزب الأمة القومي؛ فضل الله برمة ناصر، عندما قال ل«الأهرام اليوم»: «نحن لا نطلب من الحكومة تحديد خياراتنا وسنتخذ القرار المناسب في وقته». وكشف القيادي بالحزب الشيوعي؛ صديق يوسف، عن نية أحزاب المعارضة في عقد اجتماع الأحد القادم لمناقشة هذا الموضوع، وتحديد موقفها من هذه القضية، ورد الحكومة، وتبقى الأسئلة: هل فعلاً الوضع القادم بعد انفصال الجنوب يتطلب قيام حكومة قومية؟ وماذا تريد المعارضة من تكوينها؟ وممن تخشى الحكومة؟ وهل كما قيل رؤية هذه الأطروحة غير واضحة؟ وما المطلوب فعله للاتفاق على صيغة مشتركة؟ سألت القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي؛ علي السيد، عن ضرورة قيام مثل هذه الحكومة؛ فقال: «هناك ضرورة ملحة لقيامها حتى تتمكن من توحيد الجبهة الداخلية»، وأشار إلى أن المقصود منها هو الاتفاق على برنامج واحد، في ما يتعلق بالحريات وغلاء المعيشة، لا سيما أن الشمال بعد الانفصال سيواجه ظروفاً صعبة تتمثل في حل مشكلة دارفور، وعموماً البلاد مهددة بحروب كارثية. ووصف علي السيد تصريحات المؤتمر الوطني بالمتسرعة، وأرجع ذلك إلى اعتقاده أن المعارضة لا تفكر إلا في اقتسام السلطة، وذكَّر بأن السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي قبل الاستقلال عندما كانت الحالة تشابه الأوضاع الآن؛ دعوَا إلى تكوين حكومة قومية، ووقتئذ فكرا بعيداً عن المصالح الخاصة، إلا أن السياسين آنذاك رفضوا هذا الأمر، لذلك لا بد من الاتفاق على برنامج قومي جديد لإنقاذ البلاد، لأن الظروف الحالية تحتاج إلى تفكير جديد، لا سيما أن هناك احتمالاً كبيراً بترجيح الجنوبيين خيار الانفصال، واقترح إمكانية اكتفاء المعارضة بتمثيل شخص واحد في مجلس الوزراء (في منصب وزير) على أن يكون هناك برنامج ينفذ بوساطة رئيس الجمهورية نفسه، لكن إذا لم يفعل ذلك فسنرجع إلى مربع الحرب المدنية التي ستشعلها أحزاب المعارضة لتدارك الخطر القادم (حسب تعبيره). واقتربت رؤيته مما طرحه الأستاذ محجوب محمد صالح؛ رئيس تحرير صحيفة (الأيام)، الذي أكد أن الناس يلجأون إلى خيار تكوين حكومة قومية عندما تتأزم المواقف في الداخل، وتواجَه البلاد بتحديات خطيرة، وحينها كل حزب ينظر إلى الخطر حسب رؤيته، وعندما تتفق الرؤى تحدث التنازلات، ويتم التوافق على صيغة لتكوين حكومة قومية. واعتقد محجوب أن الإمام الصادق انطلق في دعوته من حساباته للتحديات الخطيرة التي تواجه البلاد عقب انقسامها، ووجود الأزمات المالية ومشاكل الحروب في دارفور، ورأى أنها أسباب مقنعة لطرح توجه قومي يحظى بإجماع داخلي، ويتمكن من محاصرة الأزمات. وقال: «كذلك المؤتمر الوطني لديه رؤية يظن فيها أنه قادر على مواجهة الأزمات القادمة»، وأبدى انحيازه إلى مقترح الصادق المهدي، ونوَّه إلى أنه يستحق البحث والتحاور حوله، حتى يصل الناس إلى رؤية مشتركة. وحول حديث أحدهم عن عدم وضوح رؤية طرح القوى السياسية لفكرة الحكومة القومية؛ قال: «هذا الاقتراح ليس نهاية المطاف، لكنه إحدى الآليات، فيمكن أن يُقبل أو يُرفض أو يخضع لتغيير وتعديل، والصادق المهدي لديه وصفة علاجية لحل مشاكل السودان، لأن القضايا التي تواجهه غير مسبوقة، لكن المهم استمرار الحوار حول هذه الفكرة التي ستظل محل نقاش في الفترة القادمة». البروفيسور حسن مكي كانت لديه رؤية مغايرة، طالب خلالها بوجود رؤية واضحة لمعنى الحكومة القومية، قائلاً: «هل معناه قيام انتخابات؟ أم أنها ستقوم على كيفية تمثيل هذه القوى السياسية في الحكومة؟»، مضيفاً أن الفكرة المطروحة تحتاج إلى تعريف قبل قبولها أو الرد على الإمام الصادق، وطالب بتعريفها، لأن هناك جهوداً تمضي الآن لتمثيل أهل دارفور، وأسئلة تطرح حول رؤية البرلمان الحالي والحكومات الولائية، وأضاف: «فنحن الآن أمام تركيبة معقدة من الانتماءات، والمسارات المختلفة تحتاج إلى قراءة دقيقة لا تتعلق فقط بالخرطوم وإنما تتطلب استيعاب القضايا الأخرى في جبال النوبة ودارفور». أما رئيس تحرير صحيفة (إيلاف)؛ خالد التجاني، فقد دعا إلى عدم رهن مصير الوطن بطموحات السياسيين، سواء أكانوا في السلطة ويريدون الاحتفاظ بها أم في المعارضة ويريدون الاستيلاء عليها بأي ثمن، وذكر أن الانفصال سيزلزل مسلمات وطنية واقتصادية واجتماعية ويرسم خريطة سياسية جديدة للسودان ومن حوله، لذلك لا بد أن تكون الأطراف واعية بالتطور الخطير، وتعكف على إعادة تقييم الأوضاع وقراءتها ورصد مكانها في الوضع الجديد، وإن لم تفعل فستتجاوزها الأحداث، واتفق مع بعض المتابعين على ضرورة وجود وضع سياسي جديد يستوعب كافة القوى السياسية لتجاوز المرحلة المقبلة، وإذا أصر (الوطني) على رفضه أية مراجعة موضوعية؛ فلن يستطيع تحمل تبعات التحديات المقبلة وآثار الانفصال ومشاكل دارفور، والمسألة ليست هي حفاظ (الوطني) على السلطة، أو حصول المعارضة على جزء منها؛ وإنما المسألة محتاجة إلى رؤية وتعامل جديد، فالمكابرة لا تجدي. وأخيراً، هل تستجيب الحكومة لنداء المعارضة وتقدم على تكوين حكومة قومية؟ أم ستستمر المعارضة في التصعيد؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمات، فدعونا ننتظر.