طوال القرون الخمسة أو الستة الماضية تعاقبت على العالم في الهيمنة والسيطرة مجموعة من الدول التي تطوّرت إلى مستوى الإمبراطوريات، منها من تراجع نفوذه إلى درجة التقوقع الجغرافي كالامبراطورية الأسبانيّة والهولنديّة والفرنسيّة والعثمانيّة، ومنها من كابر وتمنّع لكنه رضى في النهاية أمام ضغط القوى الجديدة «الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة» كحال بريطانيا العظمى «آنذاك»، ومنها من هيمن واحتل وتمكّن ثم تلاشى وتساقط في مدة وجيزة كالاتحاد السوفيتي، كذلك منهم من هيمن ولا يزال من أربعة أو خمسة عقود كالامبراطوريّة الأمريكية حالياً. لقد كان للولايات المتحدة منذ بداية تسعينات القرن الماضي القول الفصل في تحديد معالم العلاقات الدولية الجديدة، وبدا مع هذا المستجد كأن نظاماً عالمياً جديداً يتشكّل تدريجياً وتكون الولاياتالمتحدة بموجبه مركز القيادة والهيمنة حتى وإن بدا أن عدداً من الدول تتطلع إلى منافستها كالصين وروسيا واليابان أو مجموعات الاتحاد الأوربي الذي ينشد الاستقلاليّة عن القرار الأمريكي. إن الميزات الأساسيّة التي جعلت الولاياتالمتحدة تتبوأ المرتبة الأولى في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل لا تكمن فقط في اتساع أراضيها وضخامة ثرواتها وتنوع أعراقها وقابلية كل هذه العناصر للاندماج والتعايش والعمل المشترك، ولا تكمن أيضاً في طبيعية النظام الاقتصادي الذي اعتمدته أو المرجعية اللبرالية في التنظيم واتخاذ التدابير فحسب، ولكن تكمن أيضاً بالتحديد في التحالف القوي بين السياسيين ورجال المال والأعمال من ناحية .. ورجال الفكر والدين من ناحية أخرى، وذلك لرسم خلفيّة فكريّة حاسمة وناجحة للمصلحة القوميّة العليا للولايات المتحدةالأمريكية، ومن ثم تضافر كل ما ذكرت وألقى بظلاله شكلاً ومضموناً على سياستها الخارجيّة ودورها في مسار وتوجهات العلاقات الدوليّة. إن العديد في النصوص الواردة على لسان رجال السياسة والمال في الولاياتالمتحدة تعكس بقوة هذه الرغبة الجامحة في الهيمنة العسكريّة والاقتصاديّة والسياسية على العالم، وتدل بكل الوضوح على الرغبة الأمريكيّة في جذب كل العالم إلى مجتمع مثالي «بالمعيار الأمريكي» يتشكل ويتحقق على القارة الأمريكيّة ويتحقق هذا الحلم بالتسامح أولاً كما يقول رجال الدين هناك أو بالقوة إذا اقتضى الحال. النظرة إذن ومنذ البدء كانت نظرة إلى الذات .. مركزية .. استعلائية .. ويطلقون عليها هناك اسم «الرسالية»، وبالتالي فإن الرسالة الأمريكية إنما هي في المحصلة لمصلحتها القوميّة، وبتحقيق هذه المصلحة تتحقق الرسالة الأمريكية. نحن على وشك استنساخ الثلاثية الأوروبية القديمة التي استندت في زمان سيطرتها على العالم إلى ثلاثة: المبشِّر والتاجر ثم العسكر!. يقول «هنري كسنجر» وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق «إن الولاياتالمتحدة لا تكتفي بأن تدبر شؤونها في إطار نظام دولي، إنها تطمح إلى أن تكون هي ذاتها النظام الدولي بالجملة والتفصيل». عليه فإن السياسية الأمريكية في أواسط أربعينات القرن الماضي مثلاً كانت تعكس مقدار القوة التي بلغتها وهي التي كانت ولازالت تعتبر أمريكا أعظم قوة في العالم، وهي - في نظر الأمريكان القادرة - على ضبط العلاقات الدوليّة بحكم القوة التي بلغتها آنذاك إلى درجة جعلت «هنري كسنجر» يقول عن رئيس الولاياتالمتحدة في منتصف الأربعينات «فرانكلين روزفلت» إنه رفض التأثير المفترض للقانون الدولي على الممارسات الأمريكية. في إطار سياق القوة الذي تم اعتماده في الفكر والممارسة الأمريكية ومنذ أواسط القرن الماضي، خرجت مقولة جديدة مكملة لذات السياق ومؤطرة له مفادها أن القوة الخالصة وحدها غير كافية لبناء إمبراطورية أو ضمان هيمنتها على العالم، أنها بحاجة إلى ما سموه «القوّة الناعمة» لتبريرها والتمهيد لها وإفساح المجال إن لم يكن لتطويع العالم ودفعه إلى القبول بالقيم الأمريكية، فعلى الأقل لضمان حيدته أو عدم مناهضته لهذه القيم. في كتاب له صادر في أواخر ثمانينات القرن الماضي بعنوان «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية» جدد الاميرال «جوزيف ناي» وهو عميد في جامعة هارفارد الأمريكية ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني هناك وكان مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس كلينتون، جدد مفهوم «القوة الناعمة» بقوله: «إنها القدرة على الاستقطاب والاقناع .. ويما أن «القوة الخشنة» تكمن في القدرة على الإجبار والإكراه المتأتي من القوة العسكرية للدولة والاقتصادية كذلك فإن القوة الناعمة تتأتي من جاذبيتها الثقافية أو السياسية أو ما سواها».. بهذا يؤكد الآدميرال أن «القوة الخشنة» هي تلك التي توجد ترجمتها العسكرية في الحرب المباشرة كذلك في المضايقات عبر الهيئات والمنظمات الدولية والاقليمية وترجمتها الاقتصادية في سبل الضغط والمقاطعة والحصار. معنى هذا كما يقول «جوزيف ناي» إنه بمقدور دولة كالولاياتالمتحدة أن تحصل بالقوة الناعمة أو الرخوة على النتائج ذاتها التي تريدها في السياسة الدوليّة وليس من الضروري في شئ إجبار الآخرين على التغيير عن طريق التهديد والوعيد أو اللجوء القوة العسكرية والاقتصادية لتركيعهم. ولما كانت «القوة الخشنة» هكذا فإن غريمتها الناعمة تأخذ بأساليب رخوة قوامها نشر الأفكار والمعلومات ودعم قنوات البث الإذاعي والتلفازي وترويج سلع وبرامج معلوماتيّة وخدمات مستهدفة في طبيعة النظم القائمة أو تشويه صور القائمين عليها. أمام صعوبة خيار استخدام القوة الخشنة إزدادت الحاجة إلى القوة الناعمة التي تتأتى من جاذبيّتها الثقافية أو السياسية والتي ليست سوى الوجه الآخر للقوة الخشنة..