أصبحت الولاياتالمتحدة القطب الأوحد في العالم في تحديد معالم السياسة الدولية الجديدة منذ مطلع التسعينات الماضية التي أعقبت انهيار المعسكر الشرقي وأفول نجم الاتحاد السوفيتي. وترافق مع بزوغ هذا النظام العالمي الجديد كما يذكر المفكر المغربي يحيى اليحياوي (مجلة المستقبل العربي ، العدد 369 نوفمبر 2009م) وبصورة أكثر وضوحاً مفهوم القوة الناعمة (Soft Power) في سياق القوة التي تعتمدها الولاياتالمتحدة للهيمنة على العالم في إطار نظرتها المركزية «الرسالية» ومن ثمة «الاستعلائية» الى الذات. بيد أن المفهوم ظهر لأول مرة في ثمانينات القرن المنصرم في كتاب للأدميرال الأمريكي جوزيف نأي (عمل مساعداً لوزير الدفاع الأمريكي في عهد ادارة الرئيس بيل كلنتون) موسوم ب «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية». وحدد مفهوم القوة الناعمة بأنها «القدرة على الاستقطاب والاقناع… وبما أن القوة الخشنة تكمن في القدرة على الاجبار والاكراه، المتأتية من القوة العسكرية للدولة، أو من تفوق قدراتها الاقتصادية: فإن القوة الناعمة تتأتى من جاذبيتها الثقافية أو السياسية، أو ما سواها ويتحدد مفهوم القوة الناعمة عند «نأي» اذن ، قياساً الى مفهوم القوة الخشنة أو الصلبة (Hard Power) التي غالباً ما تجد ترجمتها العسكرية في الحرب المباشرة وترجمتها السياسية في المضايقات عبر الهيئات الاقليمية والدولية وترجمتها الاقتصادية في وسائل الضغط والمقاطعة والحصار ...الخ. وبوصول باراك أوباما للبيت الأبيض في يناير 2009م أضحت أطروحة القوة الناعمة للأدميرال نأي موضع اهتمام ودراسة مستشاري الرئيس الأمريكي بغية الاستفادة منها في ترميم وتجميل صورة الولاياتالمتحدة التي طالتها العديد من البثور والتشوهات لا سيّما بعد غزو كل من أفغانستان (2002م) والعراق (2003م). وبما أن القوة الناعمة أكثر فتكاً من القوة الخشنة بل وأكثر فعالية ، رأى العديد من الخبراء الأمريكان أن من واجب الرئيس أوباما تبنيها لاعادة بناء ما دمرته القوة الخشنة في عهد سلفه جورج بوش الابن. وعلاوة على ذلك، فان استخدام القوة الخشنة (العسكرية) أصبح أمراً صعباً ومكلفا من الناحية المادية، ناهيك عن المناهضة المتزايدة للحروب واستخدام القوة من قبل الرأي العام المحلي والاقليمي والعالمي. ودعا كل ذلك الولاياتالمتحدة الى المزج الذكي بين القوتين الناعمة والخشنة وفق السياق والمستجدات لتحقيق المصلحة القومية الأمريكية. واذا ما تناولنا الأوضاع العربية الراهنة كدراسة حالة (Case study) لهذه السياسة الأمريكيةالجديدة ، نلحظ أن الولاياتالمتحدة لم تلجأ لاستخدام القوة العسكرية (القصف الجوي) الا في الحالة الليبية وبصورة محدودة وبالتنسيق مع بقية أعضاء حلف الناتو. أما على صعيد الأقطار العربية التي شهدت ثورات تغيير فانها تخيرّت سياسة القوة الناعمة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ففي الحالة التونسية مثلاً أدركت الولاياتالمتحدة وقبل تفجر الأوضاع هناك أن النظام التونسي فقد السيطرة على مجريات الأمور في البلاد بعد أن نشر موقع ويكيلكس وثائق سرية أمريكية رسمية تشير الى فساد مالي واداري مقترناً بفشل ذريع في اجراء اصلاحات سياسية فعلية لا تجعله حليفاً مرغوباً للغرب خاصة وأن الحكومة التونسية كانت تتطلع لمنحها رتبة «الشريك المتقدم» تمهيداً للانضمام للاتحاد الأوربي كمتعاون اقتصادي. وبدأت الولاياتالمتحدة ترتب البديل للنظام التونسي على نار هادئة بالتنسيق مع بعض فصائل المعارضة التونسية. غير أنها فوجئت بتفجر الأوضاع بسرعة مذهلة بعد أن لقي الشاب محمد بوعزيزي حتفه محترقاً وأعقب ذلك تغيير سياسي أفضى الى نهاية نظام زين العابدين بن علي. ولما كانت الولاياتالمتحدة قد أدركت ومنذ سنوات عديدة أن النظام التونسي فقد سيطرته على شعبه وتحول من نظام حكم الى عصابة مافيا اقتصادية تتعامل بندية مع الغرب ، وبعد تيقنها من أن المعارضة الاسلامية لا تستطيع احتواء الشارع التونسي، باركت على الفور الوضع الثوري الجديد. وأعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون عن «اعجابها الكبير بثورة تونس بل واعتبرتها حدثاً تاريخياً ومثالاً يحتذى» وذلك في لقاء مع الرئيس التونسي فؤاد المبزع. واستخدمت كل الضغوط السياسية والاقتصادية والمخابراتية (القوة الناعمة) من أجل تولي رموز النظام القديم في تونس للسلطة. وأدركت قيادة ثورة الشباب في تونس ما يحاك ضدها في الخفاء فواصلت التظاهرات والاحتجاجات مما دفع بكبار رموز النظام السابق وعلى رأسهم محمد الغنوشي (رئيس الوزراء) بتقديم استقالاتهم وحلت محلهم قيادات جديدة موثوق بها من طرف الثوار. ويرى العديد من المراقبين أنه وبرغم الترحيب الرسمي الأمريكي بالثورة المصرية (25 يناير 2011م) الا أن هذا التغيير السياسي كان يمثل صدمة كبيرة لواشنطن بسبب عنصر المفاجأة وعدم القدرة على توقعها بهذه السرعة وبهذا الحجم والاتساع. وليس أدل على ذلك من حالة الانتظار والترقب بل والارتباك حيناً آخر. فقد تطور الموقف الأمريكي من ابداء الثقة في نظام حسني مبارك وقدرته على ادارة الأزمة الى المطالبة باصلاحات حقيقية تلبي متطلبات الشارع المصري والتشجيع على انتقال سلمي للسلطة غير مترافق مع تغيير جوهري في رموز النظام بصورة تؤدي الى تهديد المصالح الأمريكية - الاسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط وتقلب موازين القوى في الصراع العربي الاسرائيلي. وتذكر تقارير صحفية بأن الولاياتالمتحدة كانت قد عرضت على الرئيس مبارك مبلغ (10) مليار دولار وحمايته وعائلته من أي ملاحقة قانونية مقابل تأخير تنحيه عن السلطة لشهر واحد مما يبرز مدى القلق الأمريكي الناجم عن ثورة التغيير المصرية. غير أن مبارك رفض العرض جملة وتفصيلاً. وتذكر ذات التقارير أن الادارة الأمريكية كانت في حالة استياء كامل من تسليم السلطة لمجلس عسكري انتقالي مدعية تخوفها من دخول البلاد في فوضى عارمة. ولم تهدأ الهواجس الأمريكية بعد نجاح ثورة 25 يناير المصرية الا هنيهة وبعد أن أعلن المجلس العسكري الانتقالي تقيده بكافة المعاهدات التي عقدتها الدولة المصرية مع الدول الأخرى ومن أبرزها معاهدة كامب ديفيد (1979م) مع اسرائيل. وبرغم ذلك لجأت أمريكا الى ممارسة سياسة القوة الناعمة بتحذيرها للحكومة المصرية الجديدة من مغبة مشاركة القوة الاسلامية في تحديد مستقبل حكم مصر. ورفضت الغاء الديون المصرية البالغة (5,3 ) مليار دولار. كما ترددت في تقديم مساعدات مالية عاجلة لمصر في ظروفها الصعبة الحالية. ويعكس كل ذلك عدم ثقتها في التغيير السياسي العاصف في مصر سيّما بعد تصريحات للخارجية المصرية حول اعادة العلاقات الدبلوماسية مع ايران بشكل طبيعي وكذلك النجاح في اتمام المصالحة الوطنية الفلسطينية. * عميد كلية الآداب السابق بجامعة جوبا