أن تدرك متأخراً خير من ألا تدرك أبداً، فالحمد لله الحكومة بدأت تدرك أن لا فائدة من التعلق بوهم المودة والرضا الأمريكي، فقد عبر عن ذلك حسبما نقلت (الصحافة) أمس الأول، السفير العبيد مروح الناطق الرسمي باسم الخارجية الذي علق على ما تردد عن وجود مبادرة أمريكية جديدة بشأن النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيث وصفها السفير مروح بأنها (وعود فارغة)، وأن ما يحدث من الإدارة الأمريكية لا يعني السودان في شيء وما هو إلا عبارة عن استهلاك سياسي بغرض الحراك الداخلي في أمريكا، مضيفاً (نحن لم نعد نصدق الوعود والحوافز الأمريكية والتي لم تنفذ فيها أمراً واحداً). نقول الحمد لله على بداية هذا التعافي المحمود من جانب الحكومة من مرض (الخوف والرجاء)، الذي طبع حركة السياسة الخارجية للسودان تجاه الولاياتالمتحدة، فبعد أن كانت هذه السياسة تقوم على مناهضة المارد الأمريكي على كافة الأصعدة، وعدم مهادنته وتهديده بدنو العذاب والقعود له كل مرصد خاصة أثناء وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، إلا أن هذه السياسة ما لبثت أن تغيرت على نحو حاد إلى النقيض، وذلك في أعقاب أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، هذه الأحداث التي أصابت الولاياتالمتحدة وحلفاءها في مقتل، حيث خلّفت هذه الأحداث خسائر اقتصادية وأمنية وبشرية فادحة للدولة العظمي، وكانت صعقة شديدة الوطأة والحدة عليها مما حدا بإدارة بوش الابن، بانتهاج سياسة عدائية وغير متزنة ومتشنجة، مما أدى إلى إشاعة الخوف من ردود الفعل الانتقامية لأمريكا بسبب هذه الأحداث في كثير من الدول التي كانت تناصب واشنطون العداء، لا سيما تلك التي تدرجها واشنطون في لائحة الدول الداعمة للإرهاب والسودان كان في صلب هذه اللائحة. والحقيقة فقد كانت أمريكا في تلك الأيام مثل الوحش الجريح الهائج الذي لا وقت لديه للانتظار لكي يتبين من الذي جرحه، هذا الوحش وبحالته تلك لم يكن في وسع أية دولة أن تقف في وجهه، فكان ذلك سبباً في أن تنتهج الحكومة فقه (التقية)، وتطبع به سياستها تجاه هذا الوحش الهائج، فكان أن انخرط السودان في علاقات (تعاون) غير مسبوقة في ملف مكافحة الإرهاب مع أمريكا شهدت بفاعليته واشنطون نفسها، ويعتقد على نطاق واسع محلياً ودولياً، أن هذا التعاون جنّب السودان شر أمريكي وبيل ومستطير، وتمدد أثر سياسة التقية ليشمل توقيع اتفاق مشاكوس ومن بعده نيفاشا، والتي وبعد توقيعها مباشرة انتهت سياسة الخوف والتقية بعد أن هدأ ثوران الوحش الأمريكي ويقينه ببراءة السودان من الدم الأمريكي الذي أسالته هجمات 11سبتمبر، ومن جرحه لكبرياء الدولة العظمى الوحيدة، فحلت سياسة الرجاء محل الخوف، الرجاء في صداقة أمريكية ترفع عن السودان القيود والأغلال التي كانت عليه بفعل العداء الأمريكي للإنقاذ منذ أيامها الأولى. ولم يكن هذا الرجاء من جانب السودان معلقاً في الهواء أو كان محض أماني عذبة داعبت مخيلة الحكومة أو تراقصت حيالها، وإنما كان مشدوداً إلى عقد موثق ووعد مغلظ من واشنطون ولكنه مشروط ومعلق على حسن سير وسلوك الحكومة والتزامها بتنفيذ اتفاق نيفاشا بحذافيره وتفاصيله المملة، لذلك فقد ثابرت الحكومة وصابرت ورابطت حتى أتمت عهدها إلى مدته وطبقت نيفاشا حرفاً حرفاً.. ولم تبدل فيه ولا شولة، وأوفت في الالتزام ببنود الاتفاق كله حتى منتهاه بانفصال جنوب السودان وتكوين دولة جديدة في الجنوب هي وليد شرعي للاتفاق. ورغم ذلك لم تفِ واشنطون بوعودها التي قطعتها أيام مفاوضات نيفاشا، وظلت تتذرع بذرائع عديدة وتتصيد الأزمات لتعلق عليها شروطاً جديدة لرفع اسم السودان من لائحة الإرهاب وإعفاء الديون ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، وآخر هذه الذرائع ما رشح عن اشتراطها وقف إطلاق النار في النيل الأزرق مقابل (حوافز) جديدة لم تفصح عنها. وقد ظل أمر العلاقات السودانية الأمريكية محيراً للكثيرين وأنا منهم، فقد كان التكرار في المواقف هو العامل المشترك في سلوك كل من واشنطون والخرطوم، فالأولى ظلت تكرر نفس مواقفها وتعيد عرض وعودها بذات الطريقة دون الوفاء بها، وفي الجانب الآخر كانت الخرطوم في كل مرة تصدق الوعود الأمريكية وتطمع في أن تفي بها واشنطون لما تراه من أحقيتها في نيل الحوافز الأمريكية كمستحقات مقابل إنجازها لل Home work على أكمل وجه، ولكن كانت واشنطون لا تستحي، و كانت الخرطوم لا تتعظ! أما وقد تخلصت الخرطوم من الخوف وسياسة التقية عشية التوقيع على نيفاشا، وتحللت من ثوب الرجاء في (الخير) الأمريكي مؤخراً، وتأكد لها أنها كانت تطارد خيط دخان، فإن السياسة التي ستعيد لها كامل التوازن في علاقتها مع واشنطون هي (الإعراض) وتجميد العلاقات معها، فليس للسودان ما يخسره على أية حال جراء ذلك، فواقع حال هذه العلاقات منذ أكثر من عقدين يجسد حالة التجميد، ثم تحويل الجهود والموارد التي كانت مهدرة في سبيل تحسين العلاقات المستحيلة مع أمريكا، إلى توجيهها تلقاء أوروبا والقوى الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية، وأن تنشط الحركة الخارجية للسودان تجاه محيطه الإقليمي، لأن نيل المكانة الدولية تتطلب قبلها مكانة ودوراً إقليمياً فاعلاً.. وهناك حقيقة جسدتها حالات عديدة في السياسة الدولية وهي أنه ليس بالضرورة أن تكون الدول الأقل نمواً أو مكانة دائماً وحتماً في حاجة مستمرة للدول الأقوى أو الأكثر نمواً، وإنما العامل الرئيسي الذي يحدد اتجاه هذه العلاقة هو أهمية إحداهما بالنسبة لإستراتيجية الأخرى، فقد تكون الدولة الأقوى ووفقاً لمصالحها الإستراتيجية، في حاجة إلى دولة أقل منها لميزة نسبية تتمتع بها هذه الأخيرة، وهذه الحالة تنطبق على العلاقات السودانية الأمريكية، فلما كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة سياسة كونية، فإن السودان بموقعه وجغرافيته وموارده المختلفة وثقافته وانتمائه العربي الإسلامي.. لا يمكن إسقاطه أو شطب اسمه من صدارة اللائحة الأمريكية للدول الأكثر أهمية بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية، أمريكا مثل الدنيا إن أنت شغلت نفسك بها أعرضت عنك، وإن أعرضت عنها جاءتك تسعى.