العقل الإستراتيجي الأمريكي عُرف عنه تاريخياً أنه يسعى دائماً إلى السيطرة على الموارد والقيم الاقتصادية في شتى أنحاء العالم، بشتى السبل والوسائل. والسودان بموقعه الجغرافي في القارة الإفريقية وتنوع مكوناته وكتله البشرية واتساع رقعته الجغرافية واحتوائه على مصادر مياه وفيرة وأراضٍ خصبة هي عوامل قوة حقيقية تقود إلى أن يصير السودان في المستقبل دولة ذات شأن يمكن تصنيفها ضمن منظومة الدول المتقدمة وهو ما يمثل تهديداً لمركز أمريكا وموقعها كدولة عظمى وقطب دولي أوحد وفي نفس الوقت يمثل ذلك عنصر جذب شديد التأثير على العقل الإستراتيجي الأمريكي وعلى صناع القرار في أمريكا، وتنبع أهمية السودان في الفكر الإستراتيجي الأمريكي من أنه يمثل مخزوناً ضخماً من الموارد الاقتصادية وعلى رأسها النفط مصدر الطاقة الأول في العالم حتى الآن والذي يمثل أهمية حيوية لأمريكا، كما أن الاستثمارات الصينية الواسعة في مجال النفط والغاز في السودان يدفع واشنطون دائماً إلى وضع هذه الحقيقة نصب عينيها واعتبارها تحدياً كبيراً بالنسبة لها فالصين منافس قوي جداً لها ليس فقط في السودان ولكن في مناطق أخرى عديدة في العالم فضلاً عن أهمية الصين ووزنها الثقيل في ساحة السياسة الدولية. ووفقاً لهذه الحقائق فإن قرار السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان يهدف إلى الحصول على هذه الموارد والاستئثار بها، والوسيلة «الناعمة» المثلى طبقاً للإستراتيجية الأمريكية لتحقيق هذا الهدف هي الوجود بشكل ناعم وسلس في السودان عن طريق إيجاد نظام حكم حليف أو ضعيف يمكن تطويعه بسهولة وتوجيهه نحو تحقيق الأهداف الأمريكية. أما الوسيلة «الخشنة» الأخرى والمكلفة بالنسبة لها فهي الوجود العسكري المباشر في السودان أو حواليه في الإقليم بحيث يسهل وضع اليد على هذه الموارد وتأمين استغلالها والاستفادة منها. ولقد عملت واشنطون على استخدام الوسيلة الأولى وجربتها مع «الإنقاذ» في سنواتها الأربع الأولى ولكنها لم تصب نجاحاً، إذ سرعان ما اتضح لواشنطون أن النظام الجديد على خلاف جذري وعميق ويسير في خط موازٍ مع توجهات السياسة الأمريكية ولا يلتقي معها قط.. مما دفع واشنطون إلى الإقلاع عن محاولة ترويض الإنقاذ فقامت بوضع اسم السودان على اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب وذلك في خريف العام 1993، ومن ثم صار التوتر في العلاقات بين الدولتين يأخذ منحى تصعيدياً خاصة من جانب واشنطون وبلغ ذروته في إدارة كلينتون بضرب مصنع الشفاء في أغسطس 1998في أعقاب تفجيرات نيروبي ودار السلام التي استهدفت سفارتي الولاياتالمتحدة في كينيا وتنزانيا حيث وجهت أمريكا اتهامات للسودان بالمشاركة في هذه التفجيرات، وهذه الحادثة شكلت منعطفاً حاداً في مسار علاقات البلدين وتمخضت عنها تداعيات وظلال كثيفة عليها. ثم جاءت هجمات «11» سبتمبر لتحدث هزة كبيرة في علاقات أمريكا بالسودان فبفعل هذه الهجمات تحولت أمريكا إلى مارد هائج يسعى للانتقام ممن تعتقد أن لهم صلة بهذه الهجمات سواء من قريب أو بعيد ولما كان السودان مدرجًا ضمن القائمة الأمريكية السوداء فلا بد أن يطوله الانتقام، ولكن استطاع السودان أن يمتص الغضب الأمريكي ويتقيئه بما عرف بالتعاون الكبير من قبل السودان مع واشنطون في ملف مكافحة الإرهاب، وقد اعترفت الأخيرة بأن هذا التعاون كان إيجابياً ومثمراً ومفيداً بالنسبة لها، ولكن اتضح بعد ذلك أن هذه الخطوة من جانب الحكومة السودانية كانت خطأً فادحاً لم يجنِ منه السودان إلا السراب، فسرعان ما نشأت أزمة دارفور فاقتنصتها واشنطون فرصة ذهبية للتنصل من وعودها بإصلاح علاقاتها بالخرطوم إلى حد التطبيع فألقت أمريكا بكل ثقلها السياسي والإعلامي والدعائي للنفخ في بالون الأزمة لتضخيمها فتم توصيف أزمة دارفور من قبل الكونغرس الأمريكي في العام 2004م على أنها «إبادة جماعية» ومنذئذٍ أصبحت قضية دارفور واحدة من قضايا السياسة الداخلية للولايات المتحدة واحتلت موقعاً متقدماً في منظومة أولويات السياسة الخارجية وتلقفتها جماعات الضغط والمصالح ومراكز ما يعرف ب «الثنك تانكس» على مختلف توجهاتها، فبدأت واشنطون في تعيين المبعوثين من لدن «أندرو ناتسيوس» حتي «برينستون ليمان» وكلهم كانوا يعلقون تطبيع العلاقات مع السودان على مشاجب التسويف والمماطلة وبذل الوعود الكاذبة وشراء الوقت والتذرع بذرائع واهية وفرض شروط تعجيزية على الحكومة السودانية كل ذلك كان تحت ما تسميه أمريكا سياسة العصا والجزرة، وفي تقديري أنها لم تكن كذلك بل كانت دوماً تستخدم العصا ولم يكن للجزرة أي وجود وكانت سياسة واشنطون تجاه الحكومة السودانية تنحو نحو التفريق بين شريكي الحكم «الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني» فبينما تتحامل وتقسو وتتعسف في تعاملها مع الأخير، كانت في المقابل تترفق وتدعم وتبرر أفعال الحركة الشعبية وذلك طيلة سنوات الفترة الانتقالية حتى صارت للحركة دولتها، وامتدت هذه السياسة إلى ما بعد الانفصال إلى يومنا هذا. وبالنسبة لأمريكا فإن هدفها الإستراتيجي الفرعي في السودان لم يتحقق حتى الآن رغم كل ذلك الدفع والضغوط الكثيفة التي مارستها ضد السودان منذ وضعه على لائحة الإرهاب، والهدف الإستراتيجي الفرعي لأمريكا في السودان يتمثل في إحداث تغيير أساسي في شكل وطبيعة وتركيبة الحكم الحالية في السودان، بمعنى أن يكون المكون الأساسي لهذه التركيبة نظاماً علمانياً منقطع الصلة بالحركات الإسلامية إفريقي الهوية والتوجه، ومتصالحًا مع إسرائيل ومراعياً لمصالح أمريكا في المنطقة.. ولما لم تستطع أمريكا تحقيق هذا الهدف عن طريق تدجين وترويض الحكومة السودانية، ولا عن طريق وسائل الضغط الخشنة حرب العقوبات والعزلة واستخدام ورقة الجنائية الدولية، فإن العقل المفكر للسياسة الخارجية الأمريكية بدأ في تجريب «طريق ثالث»، بدأت واشنطون السير فيه بالفعل عقب الإعلان الرسمي لانفصال جنوب السودان ودشنته بتمرد مالك عقار وهذا الطريق الثالث هو ما يسمى ب «الفوضى الخلاقة»... «نواصل» .