خرجت من منزل (عزاء) في وفاة أحد خيرة الأبناء بحادث حركة مؤلم... ودوامة من الألم تجرفني.. لما رأيت من جزع.. ولطم خدود.. وشق جيوب.. من نساء أهل الدار.. صحيح أن مصيبة الموت من أكبر المصائب التي تصيب الإنسان (لذا فالصبر عليها ليس له جزاء إلا الجنة)! والصبر معناه المنع والحبس.. فالصبر منع النفس عن الجزع.. واللسان عن التشكي.. والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب...!! قال الجنيد: هو تجرع المرارة من غير تعبس.. وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى. والمراد والله أعلم الشكوى للناس.. فالشكوى لله لا تنافي الصبر.. فقد قال يعقوب عليه السلام (... إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).. وقال (فصبر جميل).. وقال أيوب الصابر: (... أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين...).. وقال سيد الصابرين عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أشكو اليك ضعف قوتي.. وقلة حيلتي.. وهواني على الناس).. وتتصف أغلب النساء بالجزع.. وعدم الصبر.. في كل ما يلاقين من مصائب صغرت أو عظمت.. وإن كان هذا من طباعهن.. فإن الأمر الأكيد أن هذا يمكن تغييره.. فقد قال الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم): (العلم بالتعلم... والحلم بالتحلم.. وإنما الصبر بالتصبر). فالله تعالى قد جعل في الإنسان قوة القبول والتعلم.. فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل.. فلا يزال الإنسان يتكلف الصبر.. ويقول سأصبر.. حتى يصبره الله.. فكل الصفات يمكن اكتسابها ولو لم تكن طبعاً أصيلاً فيك.. يساعدنا في ذلك لو وضعنا في الاعتبار- ما تجره هذه الصفات الذميمة من سوء عاقبة.. (فالجزع لا يردع المصيبة)، بل يضاعفها.. فمن رضيّ فله الرضا، ومن سخط فله السخط.. وأمر الله نافذ لا يتغير. والعاقل يصبر في أول يوم للمصيبة.. ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لا يصبر صبر الاختيار.. صبر صبر الاضطرار وهو مرغم معاقب.. ولا البلوى زالت ولا النفس سكنت.. ومن لا يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم! فالإنسان وما يملك من نفس ومال وولد ملك لله تعالى.. وما لا تملكه لا تستطيع أن تمنع مالكه فعل ما يريد به.. فما بال الجزع..! فالدين يرتكز على ثلاثة أشياء: (فعل المأمور- ترك المحظور- والصبر على المقدور). والصبر شاق يصعب على النفس الإنسانية تعوده.. لكنه ممكن إن علمنا أن الله في ابتلائه لطيف.. فالمصيبة كان من الممكن أن تكون أكبر وإن فاتت نعماً فقد تركت نعم.. وكثير من الناس يعتقد أن الموت فراق أبدي.. وذاك فهم خاطيء ... فطالما أننا لابد أن نموت.. ولا نعرف متى ربما.. بعد لحظة من وفاة هذا العزيز الذي نبكيه.. إذن فلقاؤنا في الدار الآخره.. قريب ولو طال.. ربما كان أقرب من مقامنا مع الأحياء! قال الزهاد: إن الله لا يبتليك لأنه يكرهك، بل لأنه افتقدك ويريدك أن تقف ببابه وتنكسر لجنابه وترضى بقضائه.. فيكرم مثواك ويظلك بغطائه.. ويلقي عليك رحمته.. وقد ذكر الصبر في القرآن (في تسعين موضعاً). قال تعالى: (وأصبر لحكم ربك).. وقال في مضاعفه أجر الصابرين: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا).. جاء في السيرة أن ابنة الفرعون كانت لها (ماشطة) وبينما هي تسرح في شعرها، سقط المشط على الأرض فقالت: (يارباه).. فقالت بنت الفرعون (أبي)؟.. فقالت الله ربي ورب أبيك. فاستنكرت الابنة قولها وسألتها أهناك إله غير أبي؟.. وأخبرت أباها.. فجعل الفرعون قدوراً تغلي على نار عظيمة.. وجاء بأبنائها كلهم.. وكان يمسك الجنود بواحد تلو الآخر ويسألها.. هل هناك إله غيري.. فتجيب وقلبها يحترق.. الله ربي وربك.. فيسقطه على الوعاء حتى حمل عنها صغيرها الرضيع.. فأشفقت عليه.. وكادت تجيبه بما يريد.. فنطق الصغير في مهده وقال (يا أماه أصبري.. فإن الجنة تشتاقنا وتشاقك).. وصبرت حتى رميت هي في القدر. زواية أخيرة: قال عليه السلام: (إن ماشطة بنت الفرعون في الفردوس الأعلى.. بما صبرت).