منحت الثقافة التاريخية في السودان دوراً للمرأة في الحياة العامة مخالفاً لدورها في الكثير من الثقافات المعاصرة لها، حين سجل كل من بعانخي وتهراقا فخرهما «بأميهما» وبأنهما سجلتا دوراً في تربيتهما، كما أن الحضارة المروية عرضت دوراً مرموقاً للملكات المدعوات «كنداكات» ومشاركتهن الفاعلة وكفاحهن الذي أسهم في إنجاح ثورة أكتوبر الشعبية 1964 التي أسقطت أول حكم عسكري في السودان. «آخر لحظة».. طرحت استفهامات أمام بعض النخب النسائية اللائي شهدن تلك الحقبة، وكيف بدأت الشرارة الأولى، وأين كن حينها، وما هو دورهن في الثورة.. إلى التفاصيل: الشرارة الأولى ابتدرت الأستاذة وصال المهدي حرم الدكتور حسن الترابي حديثها قائلة إن البداية كانت عندما أقيم عدد من الندوات بجامعة الخرطوم، وكان شيخ حسن يتحدث في إحدى تلك الندوات بقوة عن تهجير الجنوبيين من العاصمة، لرفضه القاطع لهذا الأمر، ولأن الإسلام لم يقل ذلك، وكان ذلك عندما أراد عبود حرق الجنوبيين، مثلما كان يريد المؤتمر الوطني حرق دارفور، وقالت وصال إن الترابي هو من أشعل أكتوبر لكن الشيوعيين انتهزوا هذه الفرصة بحكم تواجدهم في النقابات، وأوضحت أن وزير الداخلية حينها كان يريد اعتقال الترابي، وحدثني بذلك عمي يحيى ابن الإمام عبد الرحمن عندما قابله وزير الداخلية وأن أكتوبر أشعلتها الحركة الإسلامية بكوادرها، مطالبين بالحرية وكنت حاضرة معهم منذ البداية في داخليات «البركس». ووقفنا مع مَن قاد الثورة إلى أن تم تشييع جثمان الشهيد أحمد القرشي، وأذكر أن إحدى عماتي وقفت بجانبي وقالت لي أنا سأذهب معكم لدفن «الولد الشاب»، ووقف العسكر مع الشعب وساندهم ، إلى أن أمر رئيس الوزراء قائد الجيش بالقيام بقلب الحكم، حينها بارك السيدان الخطوة وفي تقديري أن أكتوبر كانت فلتة من فلتات الدهر، ولكن الوضع الآن أصعب من ذي قبل إذا قمنا بالمقارنة، لاتساع دائرة الفقر وارتفاع أسعار السلع والحكومة صامتة فهذا لم يحدث من قبل، فأكتوبر حدثت من أجل الحرية، لكن ما نعيشه الآن اسوأ بكثير وأتوقع ثورة أخرى، لأن الناس بعد أن تمكن منهم الجوع لن يصمتوا، فالجوع يؤدي إلى الموت، والرصاص كذلك يؤدي إلى الموت، والمواطن السوداني لن يصمت أمام ظلم الحكومة والتراكمات التي حدثت وتحدث الآن، وفي ذاكرتي أن فترة حكم عبود كان «أي» وزير يسافر إلى خارج البلاد عندما يأتي يحاسبه الفريق عبود بما كسبه من تلك الرحلة، وفي اعتقادي أنهم كانوا قنوعين، والدليل على ذلك أن منزل عبود الموجود الأن في العمارات قام ببنائه أحد الرجال، لأن عبود لم يكن لديه مال لبناء منزل. أكتوبر آتية وقالت نعمات مالك- عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي وأرملة عبد الخالق محجوب- حين بداية ثورة أكتوبر كنت أدرس في السنة النهائية، وكنت حينها رئيس الاتحاد في الكلية، وشاركنا بقوة في الثورة خاصة فيما يختص بالاجتماعات التي كانت تعقد باتحادات الطلاب والنقابات، وتولينا أمر الجرحى الذين سقطوا في الثورة، حيث خصص لهم عنبر كان معداً للأمراض النفسية، إلا أنه لم يكن استعمل بعد، وكنا نتبادل الأدوار، بمعنى أن البعض يذهب للمشاركة في المظاهرة والآخرون يراقبون الجرحى ويعملون على تضميد جراحهم، والطريف في الأمر أن العساكر الذين كانت مهمتهم حراسة الجرحى كان يوزع لهم البلح ليعطيهم طاقة، ونحن لم يكن معنا ما نأكله لكنهم تعاملوا معنا بلطف وأعطونا كمية من البلح، وعندما وضع جثمان القرشي في المشرحة حاصرنا المشرحة كطلاب لحماية الجثمان لمعرفتنا بأنه يمكن أن يحدث تزوير لسبب الوفاة، إلى أن جاء أهله من القراصة، لكن الشيء المهيب هو موكب القضاة الذين وقفوا مع الثورة، أذكر منهم المرحوم عبد المجيد إمام الذي ظل يلعب دوراً كبيراً وامتد حتى انتفاضة أبريل، فأكتوبر كانت ثورة شعبية واضحة المعالم وانتهت بانحياز الجيش للشعب، وفي تقديري أن ثورة أكتوبر أعطت المرأة حقها، لكن نحن الآن لم نتقدم للأمام، وأذكر كذلك في أكتوبر الحادثة المشهورة وهي حل الحزب الشيوعي بالرغم من أن القضاء كان مع الحزب، إلا أن ذلك لم يفد وتوالت الاتهامات للحزب الشيوعي بعد ذلك، منها الاعتداء الواضح على مركز الحزب الذي كان حينها بالقرب من «مريديان»، لكن الشيوعيين صدوا الهجوم وأنا واثقة أن الثورة ستأتي قريباً وبوادر ذلك بدأت تظهر الآن في شكل احتجاجات ومطالب مشروعة، مثل ارتفاع الأسعار والغلاء الطاحن وانقطاع الكهرباء وعدم وجود الماء «ليس انقطاعها»، وستحدث الثورة لمطالب أخرى مثل الحريات واستقلال القضاء وتوفير أساسيات الحياة من الصحة والتعليم والقوت الضروري، فالحكومة الحالية أصبحت تستثمر في كل شيء حتى التعليم بفتح مدارس خاصة ملاكها الأصليون هم من الحكومة، وكل ذلك للسياسة الخربة غير المتوازنة والتي تبنى على مكاسب شخصية بعيداً عن ما يحتاجه المواطن من راحة وحرية وطمأنينة، وكان للشيوعيين فيها وجود في النقابات وكان شرفاً وليس تهمة. الأحزاب السياسية تتحمل المسؤولية كاملة، لأن الشعب لم يطلب السلطة، بل طالب بالحرية، لكن الأحزاب حينها خذلت الشعب بإعلان حكومة إئتلاف ونقض هذا الإئتلاف بعد ذلك، مما جعل المواطن لا يثق في الأحزاب، ويرى أنه أُحبط من قبل تلك الأحزاب، وكل ذلك بسبب غياب الوعي، فيجب على الأحزاب الحالية أن تجتهد في توعية الناس بحقوقها خاصة في ظل الواقع الراهن، ووضع دستور جديد ويجب أن تقف الأحزاب مع الشباب، لأنه عماد المجتمع وباستطاعته استيعاب الجديد. توحد الكلمة وتحدثت الأستاذة حفية حرم الإمام الصادق المهدي قائلة إن أكتوبر ثورة شعبية لها نجاح باهر وكنت وقتها موجودة وشاركت في كل التظاهرات، وفي تقديري أن أهم أسباب نجاحها هو التئام الشعب السوداني ضد الطغيان والنظام الحاكم وقتها، مما اضطر النظام إلى الاستسلام وتسليم السلطة، وانطلقت الثورة حسب الغبن الموجود داخل كل مواطن سوداني، وتوحدت الكلمة وكان ذلك مرده على المرأة بأثر إيجابي بإعطائها حقوقها كاملة.. لكني اتأسف كثيراً لعدم الاستمرارية بمجيء حكم نميري بعد 5 أعوام فقط، وإنني محبطة للغاية، لأن الثورة بدأت بقوة لكن التآمر الذي تبعها أفشل الديمقراطية وجاء حكم ديكتاتوري، وفي تقديري أن الفترة التي أتيحت للحكومة وقتها، كانت بسيطة وأحمِّل كل الحكومات مسؤولية ما وصلت إليه البلاد.