تجدد الجدل السياسي مرة ثانية في أروقة المؤتمر الوطني ولجان موجهات الدستور المرتقب تقديمه للبرلمان في الدورة القادمة، وتباينت آراء قيادات المؤتمر الوطني بشأن سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية في اعفاء وتعيين ولاة الولايات.. ويتجه بعض المتنفذين في السلطة لضرورة النص صراحة في الدستور لحق وسلطة رئيس الجمهورية في إعفاء الولاة المنتخبين، حتى لا يطغى البعض ويفلت من عقال الحزب والدولة ويتصرف وفق التفويض الشعبي الذي ناله، ويتمرد على المركز كما تمرد الجنرال مالك عقار في النيل الأزرق.. وهدد المركز بقصره في الدمازين وجيشه في الكرمك، ولكن دعاة هيمنة المركز على الولايات وفرض إرادة فوق إرادة الشعب الذي انتخب الولاة، مواجهون بأسئلة صعبة، هل يتخذ قرار الإعفاء من مكتبه في القصر ولا حاجة لتبرير سياسي، وأن تطلق يد الرئيس بحجة أنه منتخب من جموع الشعب لتعلو إرادته على شعب الولاية التي جاءت بالوالي؟ أم يصبح قانون الطوارئ بكل سوءاته طريقاً ممهداً لاعفاء الولاة؟ وثمة فريق داخل المؤتمر الوطني وأجهزته السياسية يتحدث عن تقييد سلطة رئيس الجمهورية في إعفاء الولاة المنتخبين باصباغ القرار بمسوح سياسي وتشريعي، من خلال طلب الرئيس المصادقة على القرار من مجلس الولايات، على أن يصوت أعضاء المجلس من الولاية المراد إعفاء واليها لصالح المشروع المقدم من رئاسة الجمهورية، ورأي آخر يرى تطوير الصيغة الواردة في الدستور الحالي، بحجب الثقة من الوالي المنتخب من خلال آلية المجلس التشريعي بالأغلبية البسيطة (50 + 1)، لكن عبقرية السياسيين في المركز في سعيها لإحكام سيطرتها على الولايات حتى لا تفلت من عقال الخرطوم، تهزم كل ما شيدته في السنوات الماضية من تطور نحو نظام حكم راشد، الشيء الذي حسن من صورة النظام خارجياً، وكبح جماح جماعات ضغط غربية ظلت مناوئة للخرطوم منذ يونيو 1989م... ولا ينظر هؤلاء من دعاة سيطرة وهيمنة المركز على الأطراف للتبعات السياسية، لا قرار مثل هذا التعديل الذي يجهض جوهر الانتخابات والتفويض الشعبي الذي ناله الولاة الفائزون، ويعرض مصداقية التجربة الديمقراطية للقدح في ذمتها، فإذا كان المركز غير مطمئن لأولاده الذين خرجوا من صلب تنظيم المؤتمر الوطني، فكيف هو الحال إن دخلت الأحزاب في اللعبة السياسية، وفاز مولانا حامد محمد حامد من حزب الأمة بمنصب الوالي في النيل الأبيض، وفاز حاتم السر بمنصب الوالي في نهر النيل الحزب الاتحادي الديمقراطي، وفاز الشيوعي المتدثر بثوب حزب المؤتمر الوطني عبدالله الشيخ بمنصب الوالي في النهود،، هل سيبقى هؤلاء في مناصبهم لبضع أسابيع أم يذهبوا بقرارات من الرئيس لإعادة الانتخابات؟ وقد كان من الأسباب التي دفعت بانقسام المؤتمر الوطني إلى (شعبي ووطني) معركة اختيار الولاة التي وقف لصفها الترابي ورفضها البشير، وعندما عاد إليها في عام 2011م تبدى ضيق الصدر بالقيود الديمقراطية التي فرضتها مشروعية الانتخابات على رئيس الجمهورية.. الوطني وأطراف البلاد يواجه المؤتمر التنشيطي سؤالاً في مخيلة الأعضاء المخلصين والقيادات الحريصة على التجربة أكثر من حرصها على كرسي السلطة ورضاء القيادة عنها!! لماذا يضعف ولاء الناس للمؤتمر الوطني كلما بعد من المركز الخرطوم؟.. وفي ذلك شواهد ودلالات وأرقام لا تتجمل.. وقد حصل مالك عقار على أغلب أصوات مواطني النيل الأزرق، وكسبت الحركة الشعبية مقاعد جعلتها تقود حكم النيل الأزرق، حتى وقع الطلاق وغرد عقار خارج قصره المنيف، وفي ولاية جنوب كردفان حصلت الحركة الشعبية على أعلى الأصوات في النسب للقائمة الحزبية، ولمقاعد المرأة، وإذا لم يخض تلفون كوكو الانتخابات منافساً لعبد العزيز ويحصل مناصروه على الدعم المالي من حسن صباحي لخسر أحمد هارون الانتخابات في رابعة النهار الأغر، بعد أن جعلت الحركة المعركة الانتخابية محطة (فارقة) للتمييز بين سكان الولاية، وانحاز حتى بعض الذين يعتبرهم المؤتمر الوطني جنوداً مخلصين لعبدالعزيز الحلو سراً، ورفعوا صورة البشير علناً وهم يعيدون دروس التاريخ الغابر حينما وقف سكان العراق بسيوفهم مع على وقلوبهم مع معاوية.. وفي ولاية جنوب دارفور حصل المؤتمر الشعبي على مقاعد في التمثيل النسبي والمرأة، وحصلت حركة مناوي على مقعد في شمال دارفور، وآخر من الجنينة، ولولا وجود شخصية مثل محمد طاهر إيلا في البحر الأحمر ونائب رئيس حزب مثل محمد طاهر أحمد حسين لذهبت أكثرية مقاعد البرلمان لمؤتمر البجة وآمنة ضرار، ولأصبح وزير الدولة مبارك سليم مبروك والياً على كسلا.. فهل خطاب المؤتمر الوطني الذي يتسم ب(الخرطومية) سبب في ضمور الولاء في الأطراف!! وكيف يواجه المؤتمر الوطني الولاء المزدوج لبعض سكان الولايات الحدودية مع الجنوب، والامتدادات الأثنية والثقافية ووحدة الوجدان.. فهل يلجأ الوطني لأفضلية التميز الإيجابي في التشكيل الوزاري، ومن أجل الحفاظ على وحدة ما تبقى من السودان يتم تمثيل النيل الأزرق، وجنوب كردفان، ودارفور، والبحر الأحم،ر في السلطة المركزية بما يلبي أشواق وطموحات تلك المناطق، وانتهاج سياسة إعلامية وتربوية وتعليمية تجعل وحدة ما تبقى من السودان مقدسة عن المساليت قبل البني عامر، والكواليب قبل الجعليين العمراب!! إن استحقاقات توحيد البلاد ليست في إعداد القوة العسكرية، ومناهضة بروز الأصوات الجهوية والعنصرية بقدر ما ثمة حاجة لسياسات تخاطب الأزمات، وأن تعتمد الدولة في إقرار سياساتها ومعالجات أزماتها برؤى سياسية ولسيت تقديرات أمنية، وإعادة الثقة للمواطنين قبل موظفي الدولة، وجعلهم شركاء في الحق العام بمقدورهم تصويب الحكام والمسؤولين والحديث جهراً عن الصواب والخطأ، لأن الشعوب المقهورة فاقدة في نفسها، لا تحقق الانتصار وقديماً قال الرئيس عبد الناصر «الأيدي المرتجفة لا تقوى على حمل السلاح، والنفوس الضعيفة لا تصنع الانتصار» واليوم يجلس المواطنون في المقاهي وتحت ظلال الأشجار بؤساء حيارى ينظرون للسلطة كشأن لا علاقة لهم به.. بينما في الخدمة المدنية لا يستطيع مدير إدارة في وزارة اتخاذ قرار درءاً لمخاطر التصنيف، وخوفاً على رزق الأولاد، وبات الجميع يوثرون السلامة (بالفرجة).. وحتى الوزراء لا يستطيعون تقديم رؤى إصلاحية خوفاً على المقاعد الوثيرة التي يجلسون عليها، ولكنهم يحرصون على الواجبات الاجتماعية، ويهرعون لمناسبات الزواج والأفراح والاتراح لكبار المسؤولين، كسباً للود واتقاء شرهم وفي المؤتمرات التي انعقدت تبدت مظاهر خطيرة جداً حتى داخل المؤتمر الوطني، حيث ينصرف المؤتمرون لحظة مغادرة الكبار للقاعات ولا يأبه بعض منسوبي الوطني لأهمية الحزب.. بينما سيطرت على بعض قيادات الوطني مفاهيم اقصائية استعلائية جعلت وزير المالية يحتل مقعداً بالرقم (801)، ورئيس اتحاد أصحاب العمل ضمن العشرة البررة الذين بايعوا البشير تحت الشجرة!! ووزير المالية وضعته قيادة القطاع الاقتصادي في المؤتمر التنشيطي الأخير في الهامش التنظيمي، ولم تمنحه حتى كلمة لمخاطبة المؤتمر وتقديم ورقة حول الاداء الاقتصادي، فيما اتسمت كلمة الرئيس عمر البشير بتشخيص دقيق جداً لأمراض الاقتصاد، واعتراف جهير بعمق الأزمة ودعا الاقتصاديين للبحث عن مخرج من الأزمة، بينما اتسم خطاب د. عوض الجاز بلهجة الوعظ والإرشاد، والحديث عن العزائم وتحدي الصعاب، بينما الاقتصاد لغة أرقام وليست إنشاء وخطب منبرية، كخطب الجمعة في مسجد سيدة سنهوري.. حرية الصحافة والرقابة مرة أخرى تتعرض مصداقية المؤتمر الوطني للامتحان القاسي إن هو أقبل على سن قانون جديد للصحافة يضع قيوداً في وجه حرية التعبير.. أو المضي في الانفتاح وتحمل تبعات الحريات دون ضيق صدر ولجوء للقوة، لإغلاق الصحف والقنوات الفضائية والمحطات الإذاعية، ووجود قانون للصحافة لتنظيم المهنة ضرورة تقتضيها مصلحة التجربة، وهناك بعض الأصوات تطالب بالغاء قانون الصحافة من حيث المبدأ، والاعتماد على القانون الجنائي، وقانون الشركات، الذي ورثه الحكم الوطني من المستعمر 1925م وحتى اليوم.. وقانون الصحافة الحالي مع تعديلات محدودة يحقق أهداف الدولة والمجتمع، وفي غياب صحافة حرة نزيهة لا يمد فيها الصحافيون الايدي لمخابرات الدولة الغربية، ولا تنفق المحكمة الجنائية الدولية ملايين الدولارات على بعض الصحافيين لتجميل وجه المحكمة القبيح، ولا يصبح الصحافي موظفاً في الحكومة تتحقق الممارسة الراشدة، وكل التجاوزات لقانون الصحافة، والقانون الجنائي، وقانون الأمن الوطني، وقوانين القوات المسلحة، يمكن حسمها من خلال المحكمة إذا لجأت تلك الأجهزة لمقاضاة الصحف والصحافيين بدلاً عن استخدام عصا السلطة الغليظة بالإغلاق الذي تترتب عليه خسائر فادحة للطرفين، ولكن الأجهزة الحكومية تتلكأ في اتخاذ القرار، ولا يستطيع مدير الإعلام في أية وزارة مقاضاة صحيفة إلا إذا غضب الوزير وأمره بمقاضاة الصحيفة، والجميع يوثرون السلامة بالصمت والنأي عن المشاكل، وهذا ما ذهبنا اليه في صدر المقال بضرورة إعادة الثقة للمواطنين في أنفسهم وإعادة الثقة للموظفين بأنهم شركاء في السلطة، وليسوا أُجراء يمكن الاستغناء عنهم وقت ما شاء الوزير ولنا عودة.