الزراعة هي الأساس الذي قامت عليه حضارات الأمم، وهي من أقدم الأنشطة الاقتصادية التي مارسها الإنسان منذ أن هبط سيدنا وأبونا آدم عليه السلام، وأمنا حواء إلى الأرض من الجنة، التي لم يكن يحتاجان فيها إلى العمل، بل كان يأتيهما رزقهما فيها رغداً، حيث شاءا، فلا تعب ولا نصب ولا مكابدة. ولكن بعد أن أغواهما الشيطان ودلاهما بغرور للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، فذاقاها وبدت لهما سوءاتهما، وأمرهما الله بأن يهبطا من الجنة إلى الأرض، بعد أن تاب الله عليهما، أصبحت الزراعة بالنسبة لبني آدم هي المورد الأساسي والأوحد للغذاء واستمرار الحياة. والزراعة ظلت منذ ذلك العهد القديم وحتى يومنا هذا تلعب دوراً حيوياً ومهماً في اقتصاديات الدول، النامية منها والمتقدمة، وتمثل المصدر الرئيسي للغذاء والدخل والعمل، وإن كان تأثير الزراعة في اقتصاديات الدول النامية أكبر وأكثر وضوحاً وبصورة مباشرة. والدول المتقدمة التي نراها اليوم سواء في الشرق أو في الغرب، لم تصل إلى هذا المستوى من التقدم والازدهار الاقتصادي إلا عن طريق الزراعة، فقد بدأت معظم هذه الدول نهضتها الاقتصادية باهتمامها بالزراعة وتركيز جهدها عليها، فتوسعت أفقياً في مساحات الأراضي المزروعة، ورأسياً في التوسع في استخدام الآليات الزراعية في كافة مراحل ودورات العملية الزراعية، واستخدام الطرق والوسائل العلمية في العناية بالزراعة بالتسميد، ومكافحة الآفات الزراعية، وغيرها من متطلبات الرعاية، فاستطاعت هذه الدول بعد النجاح في الزراعة أن تنتقل منها إلى مجال التصنيع، وقد بدأت أولاً بتصنيع المنتجات الزراعية بكافة أنواعها، ومن ثم حققت لها صادرات هذه الصناعة عوائد كبيرة ساهمت في زيادة الدخل القومي، وبالتالي أدى ذلك كله إلى التوسع أيضاً في الصناعة أفقياً ورأسياً كماً ونوعاً، حتى وصلت إلى مرحلة الصناعة الثقيلة التي تعدت حدود التصنيع الزراعي. ويعد التطور في الزراعة واستخدام الأراضي أمراً أساسياً لتحقيق الأمن الغذائي، والتخفيف من حدة الفقر، والتنمية المستدامة بصورة عامة، فالزراعة تسهم بصورة مباشرة في تنمية الريف، وتمنع الهجرة، من الريف إلى المدن لأن المزارعين لن يكونوا في حاجة إلى مغادرة قراهم ومشاريعهم الزراعية إلى المدن بحثاً عن العمل، الذي في الغالب لن يكون مناسباً لهم، وسيكون في مهن هامشية، مما يخلق مشاكل عديدة في هذه المدن، فيما يسمي ب (ترييف المدن)، حيث يضيف هؤلاء أعباء كبيرة علي هذه المدن تنعكس سلباً على الحياة فيها من جميع النواحي.. في الصحة والتعليم، والبيئة، والخدمات، هذا فضلاً عن الخلل الذي تحدثه هذه الهجرة في النسيج الاجتماعي، وفي شكل ونمط الحياة بالنسبة للقادمين والقدامى على حد سواء. والزراعة تساهم في استدامة الموارد البيئية، ومكافحة التصحر، والتغيير البيئي والمناخي، وهي معضلات برزت مؤخراً على نطاق واسع ومتزايد، وأصبحت الدول المتقدمة تعاني منها بسبب اتجاهها للاعتماد الكلي على التصنيع والصناعة في اقتصادياتها، والتراجع عن الاهتمام بالزراعة، وذلك تأسيساً على فرضية سابقة شاعت لزمن طويل، ولكنها كانت خاطئة وهي أن نسبة مساهمة الزراعة في الاقتصاد تنخفض كلما تقدم اقتصاد الدولة، وهي فرضية أثبت الواقع أنها ليست صحيحة البتة، وهناك نماذج كثيرة لدول تضررت كثيراً بسبب هجرها للزراعة، بدعوى التقدم الصناعي، ومن هذه الدول الولاياتالمتحدة التي يرى كثير من الخبراء أن جزءاً من الحل للأزمة الاقتصادية هو التوسع في الزراعة والاهتمام بها . ونحن في السودان مثال واضح وجلي يجسد أهمية الزراعة، فالسودان بلد زراعي 100%، تتوافر فيه كل مقومات الزراعة ومتطلباتها وأسباب نجاحها، فهو من قديم الزمان لم يعرف مورداً اقتصادياً في حياته غير الزراعة، وحتى بعد الاستقلال كان السودان يعتمد اعتماداً كلياً على الزراعة، ولم يكن هناك بترول ولا يحزنون، بل كان هناك ما هو أفضل من البترول، إنه القطن، وما أدراك ما القطن . كان القطن محصولاً نقدياً ظل يلعب دوراً محورياً وأساسياً وبارزاً في الاقتصاد السوداني الذي اعتمد عليه اعتمادا كلياً منذ فجر الاستقلال. صحيح أنه كانت هناك محاصيل زراعية أخرى بجانب القطن مثل الصمغ العربي، والفول السوداني، ولكن كان القطن هو سيد هذه المحاصيل وعمودها، وذروة سنامها، وظل يرفد خزانة الدولة بالعملات الصعبة، ويساهم بقدر كبير في تصحيح ميزان المدفوعات، بل إن المزارعين كانوا يتحمسون لزراعته بسبب عائده المضمون، والذي أحسوا به في حياتهم اليومية، حيث ارتفع مستوي المعيشة لديهم وتحسنت دخولهم منه، فضلاً عن استيعاب مشاريع زراعة القطن لكثير من الأيدي العاملة الموسمية التي هي الاخرى استفادت من عملها في هذا المحصول. ومن الحقائق التي قد لا يعلمها الكثيرون أنه وإلى ما بعد قيام (الإنقاذ) كان جزءاً كبيراً من الاحتياجات المستوردة يتم تسديد فواتيرها من إيرادات تصدير القطن، واستمر ذلك حتى العام 1996م، وبعدها بدأ إسهام هذا المحصول المهم في الاقتصاد الكلي للسودان في التراجع إلى حد كبير، وتزايد اعتماد الدولة على النفط، ولكن بعد التطورات السياسية في البلاد مؤخراً وانفصال الجنوب وخروج النفط جزئياً من المعادلة الاقتصادية، برزت الحاجة إلى العودة بقوة إلى القطن (النفط الأبيض) ومما يحمد لبرنامج النهضة الزراعية أنه أفرد حيزاً كبيراً ومعتبراً له لملء الفجوة التي أحدثها خروج النفط الأسود... نواصل.