على غير عادته، بدا لي شيخ الصحافة العربية الأستاذ محمد حسنين هكيل، وأنا أتابع إطلالته الأخيرة عبر شاشة الجزيرة، أقل سيطرة على موضوعه وهو يحلل أحداث الربيع العربي، خصوصاً في الحلقة الثانية من سلسلة لقاءاته الثلاثة التي يحاور خلالها مذيع الجزيرة الألمعي محمد كريشان، والتي بدأت الخميس وانتهت الليلة الماضية، حيث خصص كريشان وهيكل الحلقة الأولى لتناول الأوضاع الدولية في زمن الربيع العربي، والحلقة الثانية، التي أذيعت الجمعة، للانتفاضات والثورات في البلدان العربية، ما عدا مصر التي خصصت لها حلقة مستقلة تذاع مساء السبت، أي بعد كتابة هذه «الإضاءة»! ü بالنسبة للأوضاع الدولية في زمن الربيع العربي، التي سبقته أو التي رافقته ركز الأستاذ هيكل على قراءة تطور الرأسمالية والمعسكر الغربي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وما رافق ذلك من «أوهام الانتصار النهائي» في المعركة مع الاشتراكية، وما ترتب على ذلك من انطلاق بلا تحسب أو تريث من جانب القوى الرأسمالية، بدولها وشركاتها العابرة للقارات وفق سياسة التحرير الاقتصادي المنفلتة، والقائمة على انتهاز الفرص واصطياد الصفقات من أجل تعظيم الأرباح حتى لو كان عن طريق الاستدانة والمضاربات، الأمر الذي جعل معظم الدول الرأسمالية وبعد مرور سنوات قليلة في مواجهة عجز حقيقي لدى مقارنة مديونياتها بناتجها القومي الإجمالي السنوي، وحالة الولاياتالمتحدة، زعيمة المعسكر الرأسمالي هي أكبر شاهد في هذا المقام، كما أن ما يجري في دول أوربية عديدة، كاليونان وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال من دول الاتحاد الأوروبي يؤكد حالة التدهور والاضطراب الاقتصادي الذي يشهده هذا المعسكر القائد للعالم والمسيطر الأكبر على ثرواته وموارده، وجاءت حركات «احتلوا وول ستريت» وأخواتها التي انتشرت كما النار في الهشيم من نيويورك الى أغلب المدن الأمريكية ولتمتد الى بريطانيا وأوروبا واستراليا لتؤكد عمق الأزمة التي يعانيها المعسكر الرأسمالي. لكن مع هذا يُقرُّ الأستاذ هيكل بأن الولاياتالمتحدة ستظل وتبقى هي القوة الأعظم والأهم في العالم والمتحكمة بمصائر السياسة الدولية لأعوام عديدة قادمة، لكنها كما قال انتقلت، وبحكم هذا التراجع والأزمة المالية، من دور الفاعل المباشر إلى دور «المقاول» الكبير الذي يستعين بمقاولين أصغر يديرهم ويوجههم لإنجاز المشروع، ففي عهد بوش الابن وفي الحالة العراقية تدخلت الولاياتالمتحدة حتى بدون إذن مجلس الأمن والأممالمتحدة وأجبرت حلفاءها الأوروبيين وغير الأوروبيين على اللحاق بها، بينما في الحالة الليبية ولتنفيذ قرار مجلس الأمن دفعت بحلفائها الأوروبيين الى موقع المبادرة في عمليات الحظر الجوي وتراجعت بعد أن مهدت لهم بقصف المقاومات والترسانات الليبية بوسائلها المتقدمة بصواريخ توما هوك وطائرات متطورة ثم انسحبت واقتصر دورها على التوجيه والإشراف وتقديم المساعدات الفنية واللوجستية والاستخبارية. وفي كل هذا تبدو قراءة الأستاذ هيكل متماسكة ومتفقة مع ما يجمع عليه معظم المراقبين والمحللين السياسيين المتابعين للتطورات الدولية والإقليمية. ü لكن عندما انتقل الحوار بين هيكل وكريشان الى الحديث عن ثورات الربيع العربي -في الحلقة الثانية من الحوار- في كل من تونس وليبيا وسوريا واليمن، وغيرها من البلاد التي شهدت هبّات وانتفاضات اهتزت قراءة الأستاذ هيكل لهذه التطورات والأحداث، وبدا في شكل «معلم قديم» لديه نظريات ومقاييس ومجسات ثابتة يُعملها في كل حالة، فإذا ما توافقت مع هذه النظريات والمقاييس حازت (علامة صاح) وتأشيرة المرور وإلا فله رأي آخر ولو كان في موقع القرار لقال لأصحاب هذه الثورة أو الانتفاضة أو تلك «أعِد» وأشر عليها (بعلامة خطأ). فالأستاذ هيكل يقول لكريشان إن الثورات لا تنفجر لأن شخصاً ما أو جماعة ما قررت القيام بالثورة، فالثورة عنده هي مجموعة تراكمات تتجمع وتمور في أحشاء المجتمع حتى تنضج وتنفجر في اللحظة المناسبة. وهذا صحيح على وجه العموم. وهو ما رآه ينطبق على الحالتين التونسية والمصرية، لكنه عندما ينتقل للحديث عن الثورة الليبية والسورية، وبرغم تعاطفه غير المنقوص مع أحوال الليبيين في عهد القذافي، والسوريين تحت حكم البعث و«التوريث» الذي مارسه حافظ مع ابنه بشار، والذي رأى فيه السوريون إهانة بالغة، خصوصاً بعد أن تخلص المصريون عبر ثورتهم من توريث مبارك لابنه جمال -كما قال- فإن هيكل يؤكد بإصرار أن ظروف الثورة لم تكن مكتملة وناضجة في كل من ليبيا وسوريا، لذا اضطر الليبيون للاستعانة بحلف «الناتو» وينتظر السوريون تدخلاً أجنبياً أو عربياً من أجل مساعدتهم على التخلص من بشار، ورأى في عدم انضمام دمشق وحلب للثورة أن الطبقة الوسطى في أكبر مدينتين سوريتين لم تستعد للانتفاض! ü في الحالة الليبية يرى الأستاذ هيكل أن الاستعانة بحلف الأطلنطي تؤكد أن الليبيين لم يكونوا لينتصروا على القذافي لولا «التدخل الأجنبي»، ويرى في ذلك منقصة سيترتب عليها الكثير من الفواتير التي على الليبيين أن يدفعوها من سيادتهم ومن نفطهم على وجه الخصوص. يقول هذا بالرغم من أنه يرى في القذافي شخصاً «غير معقول» وأنه قد انفصم عن الواقع ويعيش في عالم من الرؤى الذاتية وجنون العظمة الذي اشتهر عنه. وعندما سأله كريشان عمّا إذا كان على الليبيين أن يرفضوا التدخل الدولي وينتحروا أمام ذلك الطاغية المهووس لم يجد هيكل إجابة مناسبة غير أن الثورة لم تنضج. أو بمعنى آخر كان عليهم أن ينتظروا. قال ذلك بعد أن أوضح في إجابات سابقة أنه قال لمرافقه الليبي في آخر زيارة له إلى ليبيا قبل أكثر من عشر سنوات إنه لن يزور ليبيا مرة أخرى بعد هذا الذي رآه استنكاراً لممارسات العقيد. ü نسي هيكل، وهو الذي بدأ حواره مع «الجزيرة» بالتطورات الدولية المحيطة بالربيع العربي، نسي أن العالم ومنظوماته أيضاً يتطور ويتغير، وأن مبدأ الحماية الدولية للمدنيين أخذ يترسخ منذ أن تم إقراره من قبل الجمعية العامة في عام 2005، وأنه في ظل هذا التطور المهم لم يعد في إمكان حاكم أن يستفرد بشعبه، وأن «حدود السيادة» تتقلص وتتناقص، ولا أظن أن هيكل لا يعلم هذه الحقيقة، فالرجل «بحر علوم» في العلاقات الدولية، ولكن يبدو أنه لا يقرها أو يستسيغها، مع أنها هي تطور طبيعي رافق تقدم العلوم والاتصالات والاعتماد الاقتصادي المتبادل وحالة «العولمة» المسيطرة على علاقات الدول والشعوب بما في ذلك انتقال الشركات الرأسمالية الكبرى بصناعاتها وأدوات إنتاجها ورساميلها إلى دول العمالة الرخيصة في الصين والهند ودول آسيوية أخرى وأمريكية لاتينية كما لاحظ هو في ذلك الحوار الشيق. وفي هذا الصدد يقول وزير الخارجية الاسترالي السابق غاريث ايفانز في مقال أخير له نشر منذ أيام على موقع «بروجيكت سينديكتس» وجريدة «الخليج» الإماراتية، وهو الذي عمل رئيساً مشاركاً للجنة الدولية التي أسست ونظرت «لمبدأ الحماية» قبل أن تتبناه الأممالمتحدة، يقول: إن العديدين سوف يصعب عليهم تقبلُ أيضاً فكرة أنه عندما يتعلق الأمر بأكثر فصول العنف ترويعاً للضمير الإنساني «الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والانتهاكات الجماعية» فإنه تم إحراز تقدم دراماتيكي مؤخراً. إن المكاسب بلغت ذروتها في التدخلات والتي لم يكن أحد ليتصورها قبل عقد واحد والتي قام مجلس الأمن الدولي بإجراء تفويض بشأنها هذا العام من أجل منع حدوث كوارث في مجال حقوق الإنسان في ساحل العاج وليبيا. إن إحراز تقدم في هذا الخصوص يعني أنه لم يعد من الخيال أن يأمل المرء بأن أحداثاً مثل المحرقة النازية ومجازر كمبوديا ورواندا وسربينشيا لن تحدث مرة أخرى. وأوضح ايفانز أن العمل الدولي الحمائي لا يعني الإجبار أو التدخل العسكري فقط، والذي لا يتم إلا في الحالات القصوى التي لا يمكن تجنبها، فالتسلسل الاعتيادي - كما قال- هو المساعدة عبر الإقناع والضغط غير العسكري مثل العقوبات والملاحقة الجنائية. ü كل هذا الذي ذكرناه لا يقلل من قدر الأستاذ هيكل كمحلل سياسي لا يشق له غبار، لهذا لم نجد تفسيراً مريحاً للاضطراب والارتباك الذي صاحب قراءته لأحداث الربيع العربي، وقطعاً فإن تقدم السن ليس من بين تلك التفسيرات، فالرجل لا يزال يحتفظ بذاكرة حديدية وقدرة استثنائية على الملاحظة وحاسة صحفية متوقدة، ومع ذلك جل من لا يسهى ولا ينسى!