التوثيق علم وفن وعندما يجيء تسطيراً لذكريات ارتبطت بالمراحل الدراسية قبل ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، يصبح توثيقاً للحياة الاجتماعية والفنية وتجديداً لأسلوب التوثيق لذكريات ظلت عامرة بالقلوب. أرتبط عام 1946م بأحداث ظل صداها فى الذاكرة، منها فيضان نهر النيل الذى تصدى له رجال جزيرة توتي، وأنشدت واحدة من الشاعرات أغنية حماسية(عجبوني الليلة جو)، وفي الموردة حاصر النيل الحي ودمر بعضاً من المساكن، وكنت وزملاء الدراسة بالمدرسة الأهلية الوسطى، وجلسنا سوياً للاستماع الى محاضرة عن التراث الفني السوداني، عنوان جديد علينا حرصنا على معرفة حقيقته وماهيته، وقدم أستاذنا عثمان نورين خريج كلية فكتوريا الفنان إسماعيل عبدالمعين من معهد فؤاد للموسيقى بمصر الشقيقة، الذي أفاض في شرح التراث الفني السوداني، باعتبار أنه ثروة قومية متنوعة تزخر بها ربوع السودان، وقدم نماذج غنائية للتنوع الثقافي، شارحاً ضرورة التوجه بالغناء لعكس حياة البيئات المختلفة بوطن المليون ميل مربع، وضرورة تطوير الغناء السوداني والخروج به من الدائرة المحلية الى الانتشار بدول الجوار العربية والأفريقية، وأن ما يزخر به السودان من إرث ثقافي شأنه أن يسهم في انتشار الفن السوداني الى دول العالم. وتحول الفنان عبدالمعين الى الغناء للوطن بنشيد(صهة يا كنار وضع يمينك في يدي)كلمات الضابط الشاعر محمود أبوبكر من شعراء حي الموردة القديم، خرجنا من المدرسة نردد النشيد وقررنا نحن أبناء حي الموردة زيارة الشاعر الكبير بمسكنة المطل على خور أبوعنجة الموسمي للتحية والتقدير، ونتج عن تلك الزيارة سماح أسرنا بحضور الليالي الأدبية بنادي الخريجين بأم درمان كجزء من التربية المدرسية الوطنية. وفى عام 1953م التحقت بجامعة القاهرة بجمهورية مصر الشقيقة وقد سبقنا اليها الصديق سيد خليفة والتحق بمعهد الموسيقى العربية، وعبره توثقت الصلات مع الفنان إسماعيل عبدالمعين، بالإضافة الى جلسات فنية مع الطلاب السودانيين بالجامعات والمعاهد المصرية، وتعرفنا على مدرسة جديدة من الكلمة الغنائية واللحن والعزف والتوزيع الأوركستري مع استخدام النوتة الموسيقية، وهي مدرسة الأستاذ الفنان إسماعيل عبدالمعين، بشخصيتها الاعتبارية الثقافية. وظل اسم الفنان عبدالمعين لامعاً بالوسط الفني المصري وبشوارع القاهرة الفسيحة، وأحسب أن مدرسة الأستاذ الفنان إسماعيل عبدالمعين جديرة بالدراسة من قبل معهد الموسيقى والدراما بالخرطوم. وفى عام 1960م ونحن طلاب بالدراسات العليا بمدينة العلم والنور باريس، مدينة تواصل ساعات الليل بساعات النهار، وبمقاهي حي(سانت جيرمان) المشهور بتجمعات أهل الفكر والفن، ألتقيت بالفنان عبدالمعين وبادر بدعوتي لحضور حفله الاستعراضي بمسرح(الفووري بورجيه)بقلب العاصمة الفرنسية، وأكبر المسارح الباريسية ذي السمعة الفنية العالمية. قدم الفنان عبدالمعين أغنيات ورقصات متنوعة من مختلف مناطق السودان تغلب عليها الإيقاعات الأفريقية، والأزياء خليط بين العربية والأفريقية تعكس التنوع الثقافي لمناطق السودان، كان حفلاً رائعاً وجد اهتمام الصحف الفرنسية الكبرى تحت عنوان(ملامح من الفن السوداني الأفريقي). ودارت عجلة الأيام وتسلمت بصندوق بريدي الخاص بجامعة استراسبورغ، مكتوباً من الفنان عبدالمعين، مفاده موعد إحياء حفل استعراضي بمسرح مدينة استراسبورغ بجوار البرلمان الأوربي، كانت فرصة لدعوة بعض من أساتذتنا وزملائنا من الجنسين، وأصدقاء من منطقة الالزاس الفرنسية، ومنطقة اللورين الألمانية، وكان مظهراً جميلاً عندما امتلأت ساحة المسرح بأهل المدينة بأزيائهم القومية لحضور الحفل الاستعراضي السوداني الأفريقي. الأستاذ الفنان إسماعيل عبدالمعين عرفته ليالي القاهرة، وسهرت معه الساحات الأدبية والاستعراضية بمدينة السحر والجمال باريس، إذ ظل سفيراً للأغنية السودانية الاستعراضية، وأحسب أن ليالي الخرطوم حتى في أيام زمان.. لم تستمع بفنون العبقري إسماعيل عبدالمعين.