ü استضافتني قناة «الشروق» الليلة قبل الماضية في نشرتها الرئيسية، عند الساعة التاسعة، اتفق معي معدو النشرة في البداية (ظهراً) على «محور الحديث» الذي حسب طلبهما سينصب على علاقة الحكومة والمعارضة والمشاركة في «الحكومة العريضة» التي يقترحها حزب المؤتمر الوطني ورفضتها حتى الآن معظم أحزاب المعارضة التي تطالب ببرنامج وطني أساساً للمشاركة وبحكومة قومية أو انتقالية تمهد لتحول سلمي ديمقراطي، حتى استيأس الحزب الحاكم وقرر تشكيل حكومته منفرداً أو مع حلفائه التقليديين، حيث أعلن نائب رئيس الجمهورية الحاج آدم أن الحكاية «وصلت الحد» ولا سبيل لاستصحاب المعارضة في الحكومة العريضة. وبالفعل أعددت نفسي لمناقشة ذلك المحور، لكنني فوجئت في نحو الساعة الثامنة مساء بمعدي برنامج النشرة يتصلون بي ليطلبوا تغيير محور الحديث ويقترحون عليًّ محوراً آخر هو الزيارة المفاجئة للرئيس الجنوب أفريقي السابق ورئيس اللجنة العليا للوساطة في الاتحاد الأفريقي ثابو مبيكي للخرطوم واجتماعه بالرئيس عمر البشير، في محاولة جديدة لحلحلة المشكلات العالقة بين الخرطوموجوبا. لم يترك لي الزملاء في «الشروق» فرصة للإفلات من تناول ذلك المحور، حيث رتبوا أمورهم «الإخراجية» على ذلك النحو، فرتبت بدوري أموري على عجل واتجهت صوب مقر القناة ودلفت الى الأستديو فور وصولي. ü الخبر أو موضوع النشرة الرئيسي، والذي تناقلته الصحف الصادرة صباح اليوم التالي (أمس) ايضاً، يستند الى التصريحات التي ادلى بها ثابو مبيكي عقب لقائه وبعض مرافقيه من لجنة الوساطة الأفريقية مع الرئيس البشير حيث قال «إن اللجنة توصلت الى وجود تقدم في كل القضايا العالقة، وتمت مناقشتها مع الرئيس البشير، وسلفا كير، وطالب الجانبين بالإسراع في حل كل القضايا، وأوضح أنهما -أي البشير وسلفا كير- متفقان على الإجراءات التي تم التوصل اليها في «قضية الشريط الحدودي» والخطوات التي ينبغي اتخاذها، في إشارة لزيارته الى جوبا ولقائه الرئيس سلفا كير، ودعا الى ضرورة امتلاك الطرفين خريطة مشتركة وآلية سياسية - أمنية مشتركة لتنفيذ ما اتفقا عليه. وقال انه ناقش معهما ما يجب فعله بشأن «ابيي» وانه لا بد من اعادة نشر الجيشين -اي انسحابهما- خارج أبيي، تنفيذاً للقرار الأممي-الأفريقي بنشر القوات الأثيوبية التي وصل جزء مقدر منها بالفعل الى المنطقة، وشدد على ضرورة التحرك بسرعة استباقاً للوقت الذي سيكون فيه رعاة المسيرية قد تحركوا بالفعل نحو المنطقة (خلال شهر نوفمبر الحالي). كما تناول الخبر الرئيسي ايضاً عودة بعض منسوبي الحركة المقاتلين في صفوف والي النيل الأزرق المعزول مالك عقار بجهد بعض متنفذي الإدارة الأهلية في المنطقة ونبذهم للقتال والتمرد واستعدادهما للإنخراط في تنمية الإقليم. ًü حول الدور المرتجى والتقدم الذي تحدث عنه مبيكي بعد لقائه كلاً من سلفا والبشير، رددتُ على مذيع النشرة الذي كان يحدثني من قطر، بأن «القضايا العالقة» التي يتحدث عنها مبيكي والتي يتحدث عن أن لجنته «توصلت الى وجود تقدم فيها» بالقول ان هذه القضايا عقدت حولها اجتماعات متواصلة ومكثفة على مدى شهور طويلة في اديس ابابا بحضور الطرفين ولجنة الوساطة بقيادة مبيكي، وكانت تسمى حينها بقضايا «ما قبل الاستفتاء»، وللأسف لم تحل اي واحدة منها سواء كانت قضية الحدود أو النفط أو الديون أو الجنسية أو ابيي أو خلافها، وتم الاستفتاء وانفصل الجنوب، فتحولت الى قضايا عالقة بين «دولتين جارتين» هما جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، والحديث الغامض عن إحراز «تقدم» لا أظنه يقدم إن لم يؤخر. خصوصاً في ضوء الظروف المستجدة والحروبات المتفجرة على جانبي الحدود في جنوب كردفان والنيل الأزرق شمالاً وفي ولايتي الوحدة واعالي النيل جنوباً، وهي حروبات تعمق فقدان الثقة القائم أصلاً بين الطرفين، فكلاهما يتهم الآخر بأنه يشن «حرباً بالوكالة» ضده ويدعم المتمردين عليه. ü لكنني أضفت -وهذا هو المهم- أن رئيس دولة الجنوب قام بأول زيارة له الى الخرطوم بعد انفصال الجنوب الشهر الماضي والتقى بالرئيس البشير مباشرة وتم تشكيل لجان بين الجانبين من المفترض أن تبحث في كل تلك «القضايا العالقة» واذا ما فشل السودانيون مرة أخرى في الوصول الى حلول مقبولة للجانبين حول تلك القضايا التي من مصلحة الجنوب والشمال ومصلحة الحزبين الحاكمين في الخرطوموجوبا الوصول إلى تسوية بشأنها تجنبهما الحروبات والتمردات وليتفرغا لمواجهة القضايا السياسية والاقتصادية التي تؤرق شطري البلاد، فإن لجنة مبيكي للوساطة أو ما يسمى بلجنة «حكماء افريقيا» لن تتمكن من تقديم حلول مهما تطاولت تلك الوساطة. مبيكي ورفاقه في اللجنة، وكلهم من «الرؤساء السابقين» يعني -ناس بلا شغل- وجدوا في الأزمة الشمالية-الجنوبية، قبل وبعد الانفصال، موضوعاً مناسباً يوفر لهما عملاً مستمراً، واستعذبوا استعصاء القضايا الذي يتيح لهم المزيد من الوقت والمزيد من المداخيل المالية لقاء «الشغلة»، شغلة الوساطة التي يقومون بها، والتي تحولت الى «وساطة دائمة»، لو تم حلحلة قضايانا العالقة لانقطع رزق مبيكي ورفاقه ولضربتهم الفاقة وعادوا الى بيوتهم ينتظرون «معاشهم» الرسمي كرؤساء سابقين آخر كل شهر، ولفقدوا ما تدره عليهم مهمة الوساطة هذه من فوائد معنوية ومادية، معنوية بتصدر اسماؤهم الأخبار والأسفار والإقامة في أرقى الفنادق حيثما ما حلوا، ومادية ببدل السفريات والمبالغ المرصودة لعمل اللجنة تحت تصرفهم، لذلك يجد مبيكي راحة لا تعادلها راحة في استمرار القضايا «عالقة» ويواصل هو ورفاقه «الحكماء» التنقل «رايح جاي» و«سووا الحكاية شغلة»!.. لو لم يكن الأمر كذلك، لأنهى مبيكي مهمة لجنته ولأعلن أن الطرفين أدرى بشؤون بلدهما المنقسم، خصوصاً وانه ليس هناك ما يمنع اللقاء والحوار المباشر بينهما وان «لجنة الحكماء» ليس لها ما تضيفه.