لا يبدو في الأفق أن اختراقاً حقيقياً قد تحقق في «الحوسة» أو الأزمة السورية المتفجرة والمتصاعدة على مدى أكثر من ثمانية أشهر، والتهمت حتى الآن آلاف الأرواح وأقعدت عشرات الآلاف من الجرحى وزجت أرقاماً مهولة من السوريين في سجون النظام. نسميها «حُوسة» وهي مفردة عربية فصيحة- على عكس ما يتبادر إلى الأذهان من أنها عامية أو دارجة، لأنها أكثر دقة في توصيف الحالة السورية- وكذلك اليمنية- فالعرب تقول «حاستهم الخطوب الحوَّس» لوصف الأمور التي تنزل بالقوم فتغشاهم وتتخلل ديارهم، وتقول العرب أيضاً «حاس الذئبُ الغنمَ» أي اختلط بها وفرقها، و «حاست» الفتنة فلاناً أي خالطت قلبه وحركته على ركوبها، و «حاسوا» العدو ضرباً بمعنى بالغوا في النكاية به، ويقول المصريون بعاميتهم البليغة «ياحُوستي» تعبيراً عن الجزع والفجيعة من النوازل والدواهي التي لا فكاك منها.. فالأزمة السورية قد بلغت بالفعل مرحلة «الحُوسة» لتثاقلها واستعصائها على الحل، على الرغم من جهود الحل الإقليمية والدولية. آخر اجتماع لمجلس الجامعة العربية بشأن «الحوسة السورية» كان يوم الأربعاء الماضي على هامش المنتدى العربي- التركي الذي انعقد بالرباط في المملكة المغربية، وخرج المجلس بمهلة جديدة- ثلاثة أيام تنتهي اليوم أو الليلة الماضية- أعد خلالها الوزراء العرب «بروتكولاً تنفيذياً» قدموه للسلطات السورية يتم بموجبه إنشاء بعثة مراقبة عربية من عسكريين وناشطين في حقوق الإنسان لمراقبة الأوضاع ميدانياً في أكثر من «16» موقعاً على الأراضي السورية، ويقدم تقاريره لمجلس الجامعة الذي هو في حالة انعقاد دائم، وذلك بهدف وقف العنف والقتل فوراً، كما قال رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم في المؤتمر الصحفي الذي انعقد في ختام منتدى الرباط، وإلا فإن مجلس الجامعة سيبحث في كيفية تطبيق العقوبات الاقتصادية التي قررها المجلس الأسبوع الماضي لدى اجتماعه في القاهرة، و أوضح بن جاسم أنهم سيحاولون العمل على أن لا تمس هذه العقوبات الشعب السوري بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لكن السؤال هل ستتمكن مثل هذه البعثة من لعب دور حقيقي في وقف العنف والقتل في ضوء سلوك النظام المعهود؟! تركيا التي شاركت في المنتدى بوزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو بدت أكثر حماساً لمعاقبة النظام السوري، لأن كل محاولاتها لإخراج سوريا من «الحوسة» التي أوقعها فيها النظام قد باءت بالفشل، على الرغم من علاقات الصداقة والمودة التي ربطت بين أنقرا ودمشق خلال السنوات الأخيرة، وبالأمس خرج رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ليلوم المجتمع الدولي والأمم المتحدة على التباطؤ والإهمال المتعمد الذي تعامل به مع «الحوسة السورية»، وقال إن الدول الغربية لم تتحمس لوقف نزيف الدم السوري لأنه ليس في سوريا نفط أو غاز أو موارد، بينما كانت على عجلة من أمرها في الحالة الليبية فاتخذت القرارات العاجلة وحثت حلف الناتو لفرض الحظر الجوي ومساعدة الثورة الليبية لبلوغ غاياتها طمعاً في موارد ليبيا، وحث أردوغان المجتمع الدولي على التدخل الفوري في الأزمة السورية لوقف القتل والقمع، وإلا فإن الضمير الإنساني سيصبح مثقلاً بجرم التباطؤ والتستر على الدم السوري. وبرغم قرارات الجامعة القاضية بتعليق عضوية سوريا والنداءات الصادرة من لدن البيت الأبيض ومن العواصم الأوروبية والعقوبات المعلنة والمنتظرة، عربياً ودولياً، فإن بشار الأسد ونظامه ليس في وارد التراجع أو التخلي عن خياره في مواجهة «الحوسة» إلاّ بمزيد من الحوسة، أي باعتماد «الحل الأمني» خياراً وحيداً للقضاء على ثورة الشعب السوري. وعندما يتأمل المرء في الأسباب التي تدعو النظام للاستمرار في هذا النهج، يجد أن ذلك يعود بالدرجة الأولى لطبيعة النظام الحاكم في سوريا، فهذا النظام ورث رؤى و شعارات وأفكاراً مرحَّلة من مراحل تاريخية سابقة، كانت سبباً مبرراً لقيامه، فالأسد الأب ومن قبله النظام البعثي الذي انقلب عليه ب«الثورة التصحيحية»، كان يجد مبرر حكمه وسلطته في مواجهة إسرائيل ضمن منظومة التحرر الوطني التي اجتاحت العالم في خمسينات وستينات القرن الماضي، وكانت شعارات التحرير والأفكار القومية العربية هي الواجهات التي يرفعها النظام في مواجهة كل من يدعو إلى الحرية الحقيقية والديمقراطية، تحت دعاوي «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، هذه الرؤى والشعارات والأفكار لازال نظام الأسد الابن يتدثر بها، ويتبنى رعاية «المقاومة الفلسطينية» وجماعات أخرى في لبنان وغيرها وفي مقدمتها حزب الله، ليشكل بذلك ما أصبح يعرف «بمحور الممانعة»، عوضاً عن «المقاومة» المباشرة التي تعني المواجهة المباشرة لإسرائيل، فالممانعة تعبير مطاط ومائع يعني «الامتناع» عن قبول التسوية الأمريكية ومخططاتها المطروحة على المنطقة، انتظاراً لما ستأتي به الأيام أو لتبدل موازين القوى، هكذا بشكل مفتوح لأجل غير مسمى، وهو طرحٌ يوهم جماهير الأمة العربية والشعب السوري بأن نظام دمشق لايزال يلتزم طريق الكفاح والتحرير خلافاً للأنظمة العربية الأخرى القابلة بالتسوية والسلام مع إسرائيل، دون أن يناور في الوقت ذاته مع خيار التسوية عبر تركيا أو بحضور خجول لمؤتمرات السلام التي تنظمها الولاياتالمتحدة أو اللجنة الرباعية الدولية. من مظاهر «الحوسة السورية» هو تلك الانشقاقات المتوالية التي يشهدها الجيش السوري، بعد أن رفض العديد من منسوبيه توجيه السلاح لصدر أبناء شعبهم، واضطروا للخروج على الأوامر ومغادرة صفوف الجيش والالتحاق بما أصبح يعرف ب « الجيش السوري الحر» وقرروا حماية المتظاهرين السلميين، وتلك بعض من هذه «الحوسة» التي تنبئ بأن ليل سوريا سيطول بالرغم من الضغوط العربية والدولية، وأن «الحرب الأهلية» أصبحت قاب قوسين أو أدنى، وهي حرب لو اندلعت واتسع نطاقها ليس من اليسير وضع حد لها أو وقفها خلال شهور كما جرى في ليبيا، خصوصاً عندما ننظر إلى الشطر الآخر من المجتمع الدولي ونرى كيف أن روسيا والصين يتخندقان بشكل غير مسبوق في الدفاع عن نظام الأسد، فنحن قد سمعنا بالأمس القريب رئيس الدبلوماسية الروسية سيرجي لافيروف، حتى بعد لقائه مع وفد المجلس الوطني السوري برئاسة برهان غليون، يطلق تصريحاً ينادي باستمرار الأسد في موقعه، ويقول إنه لا يجب أن يكون رحيل الرئيس السوري شرطاً للحوار بين النظام والمعارضة، وفي ذلك تشجيع واضح لبشار وأعوانه للإبقاء على «الحوسة» واستمرار القتل إلى ما شاء الله.