ü تذكرون أننا كنا قد تناولنا هنا ما أسميناه «الحُوسة السورية» في إضاءة السبت 19 نوفمبر الماضي، وقلنا إن «الحُوسة»، التي نستخدمها في دارجيتنا هي مفردة عربية فصيحة على عكس ما يتبادر إلى الأذهان من أنها عامية أو دارجية، فالعرب تقول «حاستهم الخُطوب الحُوَّس» لوصف الأمور التي تنزل بالقوم فتغشاهم وتتخلل ديارهم، و«حاسوا» العدو ضرباً أي بالغوا في النكاية به. الآن اصبحت الحُوسة السورية حُوستين، حوسة داخلية، فتنة تضرب الديار السورية من أدناها إلى أقصاها وحوسة خارجية-إقليمية ودولية، بعد أن اضطرت الجامعة العربية إلى فرض عقوبات على سوريا نتيجة تعنت نظام الأسد الحاكم ومحاولته الالتفاف على خطة العمل العربية ورفضه توقيع البروتكول التنفيذي المنظم لعمل بعثة المراقبة العربية عبر اشتراطات تقعد بدور البعثة وتفرغها من مضمونها وأهدافها الرامية لوقف العنف والقتل اليومي الذي تمارسه قوات النظام ضد الشعب السوري برجاله ونسائه وشيوخه وأطفاله. ü نعم ذهبت الجامعة إلى فرض العقوبات مضطرة، وهي التي أنذر مجلس وزرائها دمشق بهذه العقوبات إن لم توقع على البرتوكول وإن لم توقف العنف فوراً، وكان رد النظام هو مجموعة من الأسئلة وحزمة من الاشتراطات، أسئلة حول عدد المراقبين وكيفية تنظيم عملهم تحت رقابة النظام وتنظيم حركتهم وحمايتهم واشتراطات تتصل بهوياتهم والدول والمنظمات التي ينتمون إليها. فذهبت الجامعة رأساً إلى فرض العقوبات واستدعت عدداً من وزراء الاقتصاد العرب الذين بحثوا مع المندوبين الدائمين كيفية إنفاذ العقوبات، بحيث لا تؤثر على الشعب السوري وتقتصر على النظام والحكومة وأعوانها حصراً، لكن يبدو أن هذا مستحيل، فالعقوبات لابد أن يمتد أثرها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى السوريين، خصوصاً في «دولة رعاية» كسوريا التي ظلت تحكم البلاد عبر نظام اشتراكي- رأسمالي هجين كذلك النظام الذي أقامه حزب البعث الذي يتبنى أيديولوجية هي مزيج من التوجهات القومية والاشتراكية. ü المعلومات المتوفرة تقول إن في سوريا هناك نحو 5 ملايين مواطن يعملون لدى الدولة، وإن حوالي 5 ملايين تلميذ وطالب يتلقون التعليم مجاناً في المدارس والجامعات، وهذا هو موروث مرحلة الاشتراكية التي بدأ النظام في عهد الأسد الابن محاولة التخلص منها والانفتاح على نظام رأسمالي واقتصاد حر يتحكم فيه أقرباء بشار ومعاونوه، فأخذت تتسع الهوة بين الأغنياء الجدد والشعب الذي يعيش وفق النظام القديم، وساهم هذا الواقع الجديد بدوره في تعميق الأزمة الاجتماعية ومهد التربة للانفجار الكبير والانتفاضة التي تعيشها سوريا الآن كإحدى محطات الربيع العربي الساخنة والمشتعلة. فالعقوبات العربية والدولية ستشمل مقاطعة البنك المركزي السوري وكثيراً من السلع السورية، إلا بتلك التي تصنفها الجامعة ضمن السلع الإستراتيجية والحيوية التي تمس حياة المواطنين السوريين، بالإضافة إلى حظر الطيران من وإلى المطارات السورية وعدم استقبال المسؤولين السوريين في الدول العربية وسحب السفراء وتخفيض التمثيل الدبلوماسي إلى الحد الأدنى، كل تلك العقوبات لابد أن تؤثر سلباً على حياة المواطن السوري، الذي يعاني أصلاً من الفقر والعوز، والذي أضيف إلى معاناته الآن انعدام الأمن والملاحقة والقتل اليومي في المدن والبنادر والأرياف، وانعدام الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء ومؤن أساسية نتيجة «الحوسة» المشتعلة والحرب التي تجوس الديار. أما النظام المتمثل في بشار الأسد وأخيه ماهر وابن خاله رامي مخلوف والطبقة الرقيقة المحيطة بهم من كبار رجال وأزلام مخلوف الرأسماليين الجدد وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، فلن تؤثر العقوبات في حياتهم وإن أثرت على أعمالهم، ولابد أنهم متحسبون لمثل هذا اليوم منذ انفجار الانتفاضة، فخزنوا من المال والسلاح والذخيرة ودبروا المنافذ السرية عبر «مافيات» يعلمونها وأعدوها لتسيير وتيسير مصالحهم. ü من بين الفئات التي سوف تتأثر مباشرة بالمقاطعة، المزارعون السوريون، خصوصاً صغار المزارعين الذين ينتجون الخضر والفواكه، والذين حتى إذا ما عمدت الجامعة العربية إلى استثنائهم فإن من مصلحة النظام أن يشعرهم بوطأة العقوبات عليهم ويمنع تصدير منتجاتهم، خصوصاً للبلدان العربية التي تتبنى المقاطعة، وكذلك قد يكون حال صغار الصناعيين والحرفيين في مجالات الغزل والنسيج والمصنوعات اليدوية، الذين كانوا يسوقون منتجاتهم للسياح الذين يؤمون «سوق الحميدية» بدمشق وأسواق المدن السورية الكبيرة كحلب وحماة وحمص، بعد أن جف سوق السياحة جراء تدهور الأمن وغيابه الكلي على مدى شهور متوالية. ü ليس من المؤمل أن تنفرج الحوسة السورية قريباً، فهي بهذه العقوبات والمقاطعة العربية والدولية أصبحت أكثر استحكاماً، والمرجح أن تدفع النظام إلى مزيد من التشدد والغلو بعد أن بات يخشى السقوط وما يترتب عليه من أهوال، ولابد لأي مراقب مدقق للأوضاع هناك أن يستبعد تكرار «السيناريو الليبي» بحذافيره في الحالة السورية، فتجربة القذافي ونظام حكمه تختلف في نواحٍ عديدة عن تجربة «البعث السوري»، ففي ليبيا حل القذافي الجيش وحوله إلى كتائب خاصة يقودها أبناؤه، بينما في سوريا وبرغم وجود كتائب من هذا النوع يقودها شقيق الرئيس ماهر الأسد، إلا أن بنية الجيش الأساسية لا تزال موجودة وتعمل تحت الإمرة المباشرة للرئيس ومُعاونيه العسكريين، ولدى هذا الجيش إمدادات مستمرة من الأسلحة والذخائر، من حلفاء أقوياء كروسيا وإيران والصين، وهم لا زالوا يقفون إلى جانب النظام سياسياً ودبلوماسياً -في الأممالمتحدة- ويعملون على استمراره مهما كان حجم التضحيات والجرائم التي يقترفها في حق شعبه. ü هذه التحالفات القوية هي ما يجعل النظام يستخف بالعقوبات العربية وكذلك الغربية، خصوصاً بعد أن استيقن من أنه لا سبيل أمامه سوى الاستمرار في معركة الحياة أو الموت -البقاء أو السقوط- حتى النهاية، فطبيعة النظام وآيديولوجيته لا تقبل الشراكة أو الإصلاح الديمقراطي أو الحريات الأساسية التي خرج من أجلها الشعب السوري، كما أنه من ناحية أخرى يعلم أن التغيير باتجاه الحرية والديمقراطية وحكم القانون يعني محاسبته على تلك الجرائم، وهذا ما لن يسمح به طائعاً ومختاراً. ü إنها «الحوسة» مكتملة الأركان وكاملة الدسم، فالشعب السوري مصمم على مواصلة زحفه المقدس على طريق الآلام الذي رسمه النظام، والنظام لم يعد أمامه منفذ للتراجع أو الهروب، والعالم من حول سوريا، عرباً ومجتمعاً دولياً، لا يبدو أنه مستعد لخوض معركة فاصلة ومباشرة ترجح كفة الشعب وتنتصر له، ما يعني أن ليل سوريا سيطول وليس هناك ما يدعو للتفاؤل.. اللهم لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه.