تحدثنا في الحلقة السابقة عن نضال الحركة النسوية السودانية في سبيل نيل حقوقها السياسية، وفي مقدمتها حق الانتخاب والمشاركة في إدارة الشأن العام، وكيف تُوِّج ذلك النضال المجيد بدخول أول إمرأة سودانية البرلمان عقب ثورة أكتوبر المجيدة عند فوز السيدة فاطمة أحمد إبراهيم بمقعد في الجمعية التأسيسية عام 1965 من ضمن المقاعد الخمسة عشر التي خُصصت للخريجين، أو بمعنى آخر للطبقة المتعلمة والمثقفة. وكما هو معروف فالسيدة فاطمة كانت وما زالت من قيادات الحزب الشيوعي السوداني التاريخية، بيد أنه ولحكمة أو لتكتيك سياسي ذكي لم يُدرك في حينه، لم تترشح السيدة فاطمة ضمن قائمة الحزب الشيوعي، لكن خاضت الانتخابات كمرشحة مستقلة، ولقد أثبت ذلك التكتيك نجاعته عندما ألمت بالحزب محنة حادثة معهد المعلمين العالي التي أدت إلى تعديل الدستور، وحل الحزب وطرد نوابه من الجمعية، لكن ذلك الإجراء لم يطل عضوية السيدة فاطمة أحمد إبراهيم، لأنها رسمياً لم تكن ضمن نواب الحزب الشيوعي في البرلمان، والذي يهمنا هنا هو أن المرأة الوحيدة في البرلمان لم تفقد عضويتها، والتي استمرت حتى حل الجمعية بواسطة مجلس السيادة عام 1968، عند استقالة معظم أعضائها وبالتالي فقدانها نصاب الثلثين المطلوب لإجازة الدستور. في عام 1968 أُصدر قانون انتخابات جديد، لكن للأسف أسقطت منه النصوص المتعلقة بدوائر الخريجين، ويبدو أن الأحزاب التاريخية لم تكن متحمسة كثيراً لتلك الدوائر التي كانت تكتسحها الأحزاب العقائدية، وتحديداً الحزب الشيوعي والأخوان المسلمين. وبإلغاء دوائر الخريجين، سُدت النافذة الوحيدة التي كانت مدخلاً لتمثيل المرأة في البرلمان، ذلك أن حظها في هذه الدوائر كان أوفر دائماً نسبة لخلفية وطبيعة ناخبي هذه الدوائر من المتعلمين والمثقفين، والمختلفين في تفكيرهم ورؤاهم عن ناخبي الدوائر الجغرافية ذات الكثافة السكانية العالية والميول المحافظة، خاصة في الريف، الأمر الذي جعل من الاستحالة فوز إمرأة في الدوائر الجغرافية، وسوف نثبت لاحقاً في الحلقات القادمة، إنه لم يحدث إطلاقاً في تاريخ الانتخابات السودانية- ولمدى ستين عاماً للوراء- أن فازت إمرأة في دائرة جغرافية في عهود التعددية الحزبية. والاستثناءات القليلة التي حدثت وحصلت فيها نساء على مقاعد جغرافية، كانت في ظل حكم الحزب الواحد، والقراءة المتأنية لتجربتنا البرلمانية تكشف أن مشاركة المرأة السياسية ودخولها البرلمان في كل الحقب الدستورية، كان يتم بواحدة من طريقتين،إما دوائر المتعلمين والمثقفين، أو نظام الكوتة النسائية التي يتدخل الدستور أو القانون فيفرضها فرضاً في النظام الانتخابي. ومن عجب أن بعض القيادات النسائية، ظلت تعترض على نظام الكوتة أو الحصة النسائية، بدعوى أن من الأفضل أن تترك المرأة لوحدها تشق طريقها دون تمييز أو حماية قانونية، وأن تلغى تبعاً لذلك أية تدابير تعطي المرأة حصة معلومة من المقاعد، أو نسبة تمثيل في مؤسسات الحكم التنفيذية أو التشريعية. هذا المنطق الذي نحترمه، منطق مثالي وخيالي، لا صلة له بالواقع المعاش ولا بالحقائق الماثلة على الأرض.. فالنظرة التقليدية لدور المرأة في الحياة العامة في معظم نواحي الريف السوداني، ستكون عائقاً أمام أي تمثيل عادل للمرأة.. ولو أردنا أن ننتظر حتى ترتفع نسبة الوعي وتتغير المفاهيم، فسوف يحتاج ذلك إلى وقت طويل، ذلك أن تبديل القناعات الراسخة والمتجذرة لا يتم بين يوم وليلة، ولو أخذنا بالدعوة إلى رفع مظلة الحماية القانونية والتمييز الإيجابي للمرأة، والغينا نظام الكوتة، فسوف تحدث نكسة كبيرة في حجم تمثيل المرأة البرلماني، ولولا نظام الكوتة هذا لما عرفت البلاد القيادات النسوية البرلمانية الحالية والسابقة، ولحرمت المؤسسة التشريعية من إسهامات المرأة المقدرة. وللتدليل على صحة ما نقول، نسوق أنموذج التجربة المايوية في هذا المجال، إذ شهد العهد المايوي مشاركة واسعة النطاق للمرأة في ساحات العمل السياسي، وفي عضوية المؤسسات التشريعية لم تعهدها البلاد من قبل. فعوضاً عن إمرأة واحدة في البرلمان، ارتفع العدد إلى العشرات في المؤسسات النيابية المايوية المتعاقبة، بدءاً من مجلس الشعب الأول عام 1972 وحتى مجلس الشعب الخامس (1982- 1985). ويعود هذا التوسع اللافت في مشاركة المرأة، إلى تبني النظام المايوي لفلسفة تحالف قوى الشعب العاملة التي أتاحت تخصيص مقاعد للفئات والمهن والقطاعات المختلفة، بما في ذلك المرأة، التي نص القانون الانتخابي على كوتة لها بحيث تمثل كل مديرية أو محافظة بعدد من المقاعد المخصصة للنساء، وبالإضافة للمقاعد النسوية كانت هناك مقاعد أخرى متاحة أيضاً لها، إذ فازت بعض النساء بمقاعد في الدوائر المهنية، وأخريات ضمن المقاعد المخصصة للشباب، أو مجالس الآباء والمعلمين، وجاء بعضهن ضمن حصة ال10% الممنوحة لرئيس الجمهورية، لتعيين الكفاءات القومية المختلفة، ولعمل الموازنات المطلوبة لكفالة تمثيل الأقليات والمجموعات الصغيرة. وفي الحلقة القادمة نواصل الحديث والله من وراء القصد..