إن استهداف المعاني عبر مطيَّة المباني ضربٌ من ضروب قدرات الإنسان على امتلاك أسماع المنصتين، وأسْرِ أنظار القارئين، ينساقون إلى ما يُنتج بسحر المظهر ومكنون الجوهر؛ وهذا ما يكون في عالم البشر، أمَّا شأن الذي هو كلّ يوم في شأن فمختلفٌ جدَّاً؛ يضع في القرآن الكريم مثلاً عالي المراقي، وقدوةً ساميةَ الموضع تدعوان إلى الإتقان في اتيان الكلام عقوداً منظومة قوية السَّبك، منضودة النسج، تنفذ إلى المعنى بدقة التعبير وجمال التصوير. من معالم الهُدى على طريق رسم لوحات المعاني قوله تعالى: (يوم ترونها تذهلُ كلُّ مُرضعةٍ عمّا أرضعت وتضع كلُّ ذاتَ حملٍ حملها وترى النَّاس سُكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذابَ الله شديد) الحج «2». قال علماء الفيزياء ممَّا قالوا حول ذلك الجسم الذي يسافر الآن نحو الأرض: إنه سيأتي في يوم من الأيام ليضربها ضربةً ضاربةً في القوة، فيهزّها هِزَّةً تتسبَّبُ في قلب دورتها ليُضحي بذلك الشرق غرباً والغرب شرقاً وبهذا تبدو الشمس من مغربها، وهذا هو أمر الله الذي صدر في الأزل (أتى أمرُ الله فلا تستعجلوه..) النحل «1». وشاهدنا هنا قوله تعالى «كل مرضعة» للإيغال في هول المشهد ورهبته؛ لم يقل «مرضع» لأن المرضع هي تلك المرأة التي تعيش فترة الرضاع، وهي في تلك الساعة ربما تكون بعيدة عن طفلها أو قد تكون قد فرغت من إرضاعه أو تكون قد فقدت ذلك الطفل قبل انقضاء فترة الرضاع، أما المرضعة بالتاء المربوطة فهي تلك المرأة التي تعيش لحظة الإرضاع عند وقوع الهِزة وسقوط الأجنَّة وترنُّح البشر في صور السكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وهنالك الآية الخامسة عشرة من سورة «محمد» التي تعطينا صورة زاهية من صور المعاني والمباني داخل إطارٍ من مبدأ خير الكلام ماقلَّ ودل، يحرص الإنسان على تنقية المياه والعمل على خلوِّها من منغصات عطائها الصحي لجسمه أداءً لدورها المفصلي في حياته، ويحرص كذلك على توفير عوامل حفظ اللبن من كل مفسداته ليظلَّ داعماً لصحته، والخمر التي يقتصر دورها في الدنيا على وضع الخمار على العقول وتغطيتها إلى حين، والعمل على نسيان عقبات الحياة التي لا تلبث أن تعود ذكراها بعد فقدان المال وحنظلية المذاق وميراث الصداع الذي هو في حاجة إلى علاج ذي ثمن من أجل العودة إلى الحياة الطبيعية؛ هذا هو دورها في الدنيا أما في الآخرة فلها شأن آخر هو لذة الشرب مع غياب كل سلبيات خمر الدنيا، وحتى العسل تزول عنه كل العوامل التي تعكر صفاءه ونقاءه، (مثلُ الجنَّةِ التي وُعِدَ المتقون فيها أنهارٌ من ماءٍ غيرِ آسنٍ وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغيَّر طعمُهُ وأنهارٌ من خمرٍ لذَّةٍ للشاربين وأنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ولهم فيها من كلِّ الثَّمرات) محمد «15». وتأتي مواقف للتشريع يصعب إحصاؤها عدداً جاءت في أسلوب حكمتْ حِكمته حروفٌ وكلماتٌ جعلت العدل سيد الموقف، وإذا نظرنا إلى دور حرف الجر مع الضمير في «فيها» من الآية الخامسة من سورة النساء فإننا نقف وقفة إجلال وتقدير وتعظيم لهذا الأسلوب الحكيم ( ولا تؤتوا السُّفهاءَ أموالَكُمُ التي جعل اللهُ لكُم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً ) النساء «5». جاءت الآية في سياق الحديث عن أموال ورثها ضعاف العقول الذين لا يستطعيون التصرُّف في أموالهم بحكمةٍ تحميها، وحمَّل عقلاء المسلمين مسؤولية رعاية هذه الأموال وتعهدها بالنماء، فقال تعالى وارزقوهم «فيها» ولم يقل «منها»، لأن «منها» تعني الأخذ المفضي إلى النقصان فما أُخذ من شيء إلا وأصابه النقصان، أما «فيها» تعني في خضمِّ تداولها وما تنتجه من ريع جراء تجارة وحركة بيع وشراء، وباختصار فإن الحضَّ جاء هنا لتجنُّب الإنفاق من الأصل وتوجيهه إلى ما تفرزه هذه الأموال من ريع وربح نتاجاً لحركة التجارة. هكذا تتعامل الألفاظ صغيرها وكبيرها مع المعاني وهي تعتلي بها المعارج إلى سمات الذكر الحكيم وصفاته التي تهدي للتي هي أقوم والتي هي أحسن، ولا تفرِّط في شيء من مكونات الكمال من ذي الكمال المطلق جلَّ شأنه وعظم قدره وعز مقامه.