«اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش».. ابن خلدون! عندما تناقلت وسائل الإعلام قبل فترة نبأ الطباخ النمساوي الذي نجح في صنع جبن من حليب الأم، تعتمد نكهته على ما تتناوله الأم المرضع من طعام.. انبثق في أذهان البعض سؤال ساخر مفاده الآتي.. إذا أسرف أحد الزبائن في تناول جبنة حليب الأم بكمية تعدل خمس رضعات مُشبِعات فهل ستصبح السيدة مصدر الحليب الذي صُنعت منه الجبنة أمه بالرضاع..؟! قبل سنوات.. كنتُ من الذين تناولوا بالتحليل والتعليق فتوى الشيخ جمال البنا التي ملأت الدنيا وشغلت المسلمين داخل مصر وخارجها بشأن جواز إرضاع المرأة زميلها في العمل لتحليل خلوتها به في مكاتب العمل المغلقة.. بعض الكُتّاب بدوا - من وجهة نظر بعض القراء، في حينه - مثيرين للاستياء.. وكأنهم يناقشون تفاصيل فيلم إباحي.. فما بالك بالكاتبات..! والسبب هو أن الذي يتبادر إلى معظم الأذهان عند الحديث عن إرضاع الكبير هو صورة رجل وامرأة في وضع مخل بالآداب.. مع أن الأمر في حقيقته لا علاقة له - من قريب أو بعيد - بعملية الرضاعة الطبيعية.. بل ينحصر في شرب الرجل بعض اللبن المسكوب في إناء..! ثم عادت ذات المسألة الفقهية إلى الظهور في السعودية بعد فتوى للشيخ عبد المحسن العبيكان مستشار الديوان الملكي السعودي يقر فيها بموافقته على جواز إرضاع الكبير في حالات الضرورة، استناداً إلى تفسير قوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، وإلى حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم (أرضعيه تحرمي عليه ويذهب ما في نفس أبي حذيفة). وكانت فتوى إرضاع الكبير قد أثيرت في العصر الحديث قبل بضع وسبعين سنة، عندما اشتكى بعض الأطباء المسلمين والممرضات المسلمات في بعض الدول الأوروبية من بقائهم في خلوة طوال ساعات الليل بالمستشفيات.. ف استفتوا بعض علماء المسلمين هناك فأشاروا عليهم بالرضاعة.. ثم اختفت الفتوى وعاودت في السنوات الأخيرة كمسألة فقهية مختلف عليها..! ثم ها هي تعود إلى ساحة النقاش كرة أخرى.. ومبعث التكرار - من حين لآخر - هو تقاطع مبدأ شرعي متفق عليه (تحريم الخلوة غير الشرعية بين الرجل والمرأة) مع الكثير من المصالح والمواقف العصرية التي تتطلب وقوف المرأة مع الرجل على قدم المساواة المهنية التي تتطلب الخلوة غير الشرعية..! وهي مسألة مُعقّدة يجد المجتمع العصري المسلم نفسه في كل مرّة غير مهيأ لاستيعابها، وعليه فمربط الفرس - في تقديري - يجب أن يكون التركيز على مسألة الخلوة غير الشرعية الضرورية بمعزل عن محاولة كسر عنق الواقع، بإحياء مسألة فقهية نادرة لتتوافق مراميها مع مضمون مسألة متفق عليها.. بل عوضاً عن ذلك، لماذا لا يكون التركيز على كيفية استخدام وسائل التكنولوجيا - مثلاً - في المحافظة على مبدأ اشتراط عدم الخلوة دونما مساس بأحكام المعاملات في العصر الحديث..؟!